ما وراء التغييرات في الأجهزة الأمنية السورية؟

ما وراء التغييرات في الأجهزة الأمنية السورية؟

21 يناير 2024
تملك الأجهزة الأمنية السورية صلاحيات مطلقة (لؤي بشارة/فرانس برس)
+ الخط -

منذ وصوله إلى السلطة في العام 1970، اعتمد نظام حافظ الأسد على الأجهزة الأمنية السورية في تثبيت حكمه، من خلال تغلغلها في كل مفاصل الحياة اليومية للسوريين، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وتعاظم دور الأجهزة الأمنية السورية بعد الثورة ضد نظام الأسد الابن، حيث أدت دوراً رئيسياً في قمع الحراك الشعبي، وتدجين المجتمع لصالح النظام.

وشهدت الأيام القليلة الماضية تغييرات عديدة ضمن تشكيلات وهيكلة الأجهزة الأمنية السورية، طاولت ضباطاً كباراً وقادة أفرع أمنية تتبع للنظام، وفي مقدمتها إقالة قائد الأمن الوطني اللواء علي مملوك.

لكن اللافت كان إلغاء فرع الأمن الاقتصادي التابع لإدارة المخابرات العامة، وصاحب السطوة على جميع مؤسسات الدولة الخدمية، الذي يتحكم بالحياة الاقتصادية في المؤسسات والمواطنين.

تدخلات الأجهزة الأمنية السورية في النشاط الاقتصادي

ويتولى الفرع الاقتصادي، أو "الفرع 260"، متابعة القضايا الاقتصاديّة والشركات الخاصة والمؤسسات العامة، في حين أن مهمة الفرع الداخلي (251) إجراء دراسات عن المسؤولين الحكوميين والنقابات والتجار والصناعيين والجامعات والأحزاب، بالإضافة إلى التحقيق في القضايا المتعلقة بالاقتصاد والإدارة، سواء على مستوى المواطنين أم الشركات الخاصة أو المؤسسات والهيئات والشركات العامة الرسمية.

وإضافة إلى الفرع الاقتصادي في إدارة المخابرات العامة، فإن شعبة الأمن السياسي، التابعة نظرياً لوزارة الداخلية، تعد أكثر الأجهزة الأمنية السورية تغلغلاً في المجتمع واحتكاكاً بالمدنيين وتغطي كل أنحاء سورية وكل شرائح المجتمع، حيث تحتاج الكثير من معاملات المواطنين، أو طلبات ترخيص الأعمال والمنشآت لموافقة الشعبة التي تعتبر خزان المعلومات لدى النظام عن المدنيين، وهذا ما جعل ضباط وعناصر شعبة الأمن السياسي يستغلون نفوذهم للحصول على الرشوة من المواطنين.

موظف في مؤسسة مياه السويداء: عمل الجهات الأمنية لم يتوقف على الجانب الاقتصادي

وقال أحد العناصر الأمنييين المتقاعدين أخيراً، لـ"العربي الجديد"، إن الفرع الاقتصادي عُرِف بتحكمه بكامل الملفات الاقتصادية، من موارد وتجهيزات وعقود وصرف وقضايا التوظيف، وكل شاردة وواردة تخص عمل المؤسسات، وذلك من خلال أقسام مستقلة ضمن الفروع الأمنية التي تنتدب عنصراً أو اثنين لمتابعة أعمال كل مؤسسة أو دائرة حكومية.

وكانت هذه الأقسام، من خلال سطوتها الأمنية، قد سيّرت أعمال هيئات الرقابة الداخلية والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، والجهاز المالي المركزي، على هواها، وبما يتناسب مع أدائها وتوجهاتها الأمنية ومنافعها الاقتصادية، بحيث توجه أعمال الرقابة والمحاسبة والعقوبات الإدارية، وتفتح أو تُغلق ملفات مديرين عامين وموظفين بحسب درجة القرب والولاء.

وأكد موظف في مؤسسة مياه السويداء، لـ"العربي الجديد"، أن عمل الجهات الأمنية المختصة بالرقابة المالية والاقتصادية لم يتوقف على الجانب الاقتصادي، بل تعداه إلى جميع التعيينات الإدارية على مستوى مركز المدير العام ومديري الأقسام ووحدات الجباية ولجان المشتريات.

وأضاف أن جميع التعيينات في هذه المراكز، وعلى امتداد المحافظة، تحصل باقتراح أو موافقة من أقسام الأمن الاقتصادي وعناصرها التي تُفرز لمتابعة عمل كل مؤسسة، قبل أن تدخل بعض التعيينات المهمة في إطار التوافقات مع باقي الأفرع الأمنية وفرع الحزب والمحافظ.

وأشار إلى أن الأقسام التابعة لفرع أمن الدولة تعتبر صاحبة اليد العليا في إفساد أي دراسة لجدوى اقتصادية تصب في مصلحة المؤسسة والخدمات العامة.

وأضاف أن عمل هذه الأقسام يتمحور في مراقبة عقود البيع والشراء وإصلاح تجهيزات آبار المياه والمولدات والمعدات وآليات النقل الخاصة والعامة ونقل المياه والبناء وغيره، إضافة إلى سجلات إدخال وصرف الوقود، من مازوت وبنزين وزيوت.

وتابع الموظف في مؤسسة مياه السويداء: "من خلال تجربتي في عمل المؤسسة، لا أجد في قرار إلغاء فرع الأمن الاقتصادي جدوى، طالما أن المنتخبين لإدارة المؤسسة ما زالوا على رأس عملهم".

وأعرب عن اعتقاده أن "سلم الفساد الإداري، الذي عبث في مؤسسات الدولة وتتحمل كامل المسؤولية عنه الأفرع في الأجهزة الأمنية السورية وفي مقدمتها الأقسام الاقتصادية، يبدأ من الدرجات العليا وينتهي عند مدير أي مؤسسة".

وغالباً ما تفرز الأقسام الاقتصادية في فروع الأجهزة الأمنية السورية عنصراً أو أكثر إلى كل مؤسسة، ليصبح هذا العنصر هو المسؤول الأول في المؤسسة، ومصدر الخوف والحماية لكل إداري أو مسؤول وحدة أو قسم، إضافة إلى تدخله في عمل جهاز الرقابة الداخلية في المؤسسة، وتعيينات لجان المشتريات ومراقبة المتعهدين المتعاملين مع المؤسسة وتزكية بعضهم والتدخل في عملية فض العروض المالية، ثم رفع التقارير عن سير العمل بحسب التوصيات والاتفاقات الخاصة بين الإداريين وقادة الأفرع الأمنية.

وقال أحد العناصر العاملين سابقاً في القسم الاقتصادي لإدارة أمن الدولة في دمشق، لـ"العربي الجديد": "كنّا نتلقى عشرات التقارير من مختلف الفروع الأمنية عن سير عمل المؤسسات التابعة لها، مصحوبة بتقييمات لعمل الإداريين في المؤسسات مع اقتراحات الأقسام ممهورة بموافقة رؤساء الأفرع الامنية، لإحداث أي تغييرات في المؤسسة".

وأشار إلى أنه "من ضمن هذه المؤسسات، كانت الأقسام الاقتصادية التي تساهم في حصص توزيع المحروقات على مؤسسات الدولة، وحتى تخصيصها محطات وقود دون غيرها، إلى حد وصلت هذه الأقسام إلى موقع الآمر الناهي في عمل كل مؤسسة خدمية أو إنتاجية".

الأجهزة الأمنية السورية تملك صلاحيات مطلقة

وجاء في دراسة موسعة صدرت عن مركز "عمران" في يوليو/ تموز 2016، بعنوان "الأجهزة الأمنية السورية وضرورات التغيير البنيوي والوظيفي"، أن الاستقلالية التامة وحجم صلاحيات الأجهزة الأمنية السورية أطلقا يدها في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والخدمية والاجتماعية، واتخذا أنماط تدخل عدة، أهمها تكريس مبدأ ما يسمى "بالموافقات والدراسات الأمنية".

وأشارت الدراسة إلى أن جوهر هذا الأمر هو إعطاء الأجهزة الأمنية السورية حق "الاعتراض" على كل الممارسات والمطالبات المجتمعية، ما نتج عنه التدخل في أبسط مناحي الحياة، من الحصول على رخصة بائع متجول إلى تسجيل المعاملات العقارية والميراث وصولاً إلى عضوية مجلس الشعب وترفيع ضباط الجيش، وتشكيل الحكومات وتعيين القضاة.

عمار الرافع: القيادة السورية تسابق الزمن بغية تحقيق عدة أهداف عبر مسارين

وذكرت أن مجرد الحصول على أي وظيفة عامة في الدولة، مهما صغر شأنها أو علا، يعتمد على أن تكون الدراسة الأمنية إيجابية حيال الموقف السياسي من النظام.

وذكرت الدراسة أنه جرى في عهد بشار الأسد تنمية حالة من النزاع والتنافس بين الأجهزة الأمنية، فجرى تقاسم السيطرة على المنافذ الحدودية، بحيث أصبح كل منفذ يتبع لجهاز أمني واحد هو المسيطر والمتحكم به وبثرواته.

وأوضحت أن المنافذ الحدودية مع العراق تتبع لإدارة المخابرات العامة، والمنافذ الحدودية مع الأردن للمخابرات الجوية، ومع لبنان للأمن العسكري، ومع تركيا للأمن السياسي، فضلاً عن تدخل الأجهزة الأمنية السورية في اختصاصات أجهزة الشرطة ومكافحة المخدرات وكل المؤسسات والدوائر المدنية والخدمية والقضائية وغيرها.

واعتبرت أن هذا الأمر ساهم في "التعدي السافر" لهذه الأجهزة على صلاحية بعض المؤسسات الحكومية والخاصة، خدمة لمصالح شخصية لا تتعلق بالعمل الاستخباري، وهو ما عمق من ثقافة "المحسوبيات" و"التقارير الكيدية".
وبحسب الدراسة، أدى استغلال عناصر الأمن سلطتهم الممنوحة من قبل النظام لتنامي ظاهرة الابتزاز، لا سيما مع التجار والصناعيين والمستثمرين، استناداً إلى عدم وجود سلطة رقابية أو محاسبية على سلوك عناصر الأجهزة الأمنية.

ضغوط روسية لتخفيف القبضة الأمنية

وتحدث مراقبون في دمشق عن ضغط روسي وعربي على القيادة السورية لإصلاح مؤسسات الدولة وتخفيف القبضة الأمنية، وأيضاً تخفيف انتشار الحواجز الأمنية على الطرقات، كخطوة أولى في طريق الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد المستشري في جميع مفاصل الحياة العامة.

وقال المحامي عمار الرافع، لـ"العربي الجديد"، إن "القيادة السورية تسابق الزمن بغية تحقيق عدة أهداف عبر مسارين، أولهما إحداث تغييرات شكلية في بنيتها الأمنية والإدارية، تحقق من خلالها بعض الخطوات المطلوبة من الدول العربية المنخرطة في حل القضية السورية ومن خلفها الإدارة الأميركية، والثاني استملاك ما استطاعت من موارد وفعاليات اقتصادية، لبناء قوة اقتصادية تحكم من خلالها البلد، مهما كانت نتائج التدخلات والقرارات والحلول المفروضة لاحقاً على البلد".

ومن هنا، يمكن فهم التوجهات الجديدة في مؤتمر حزب "البعث" الاستثنائي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وإلغاء وزارة شؤون القصر وتفعيل عمل رئيس الوزراء. وما يؤكد هذا التوجه هو تسريبات عن وعود عربية وأميركية تدعو إلى إبقاء رئيس النظام بشار الأسد في موقعه وتعويمه لاحقاً، مقابل إصلاحات محلية وخدمات تبدأ من عرقلة حركة "حزب الله" اللبناني والقوات الإيرانية على الأرض السورية، ومنع انخراطها بحرب مع إسرائيل عبر الجبهة السورية، إضافة إلى تقديم معلومات استخبارية عن بعض القادة والمواقع الإيرانية للجانب الأميركي.

ورأى الناشط الحقوقي في محافظة السويداء سليمان العلي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الإجراءات التي صدرت عن النظام السوري في الآونة الأخيرة حول إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية شكلية وغير كافية لإجراء عملية إصلاح حقيقية للأجهزة الأمنية.

وأوضح أن عملية الإصلاح لا بد أن تصل إلى تغيير وتفكيك هذه الأجهزة، أي حلها بشكل كامل ثم إعادة هيكلتها، إضافة إلى ذلك، وكإتمام لهذه الإجراءات، يجب تفكيك المنظومة القانونية التي تحمي هذه الأجهزة، وفق فلسفة جديدة تقوم على تحقيق الأمن الاجتماعي وليس أمن الحاكم وحده.

واعتبر أنه من خلال ذلك فقط يمكن الوصول إلى بناء قطاع أمني حقيقي، مع ضرورة إدراك عدم جدوى الإصلاح الأمني للأجهزة وعناصرها الحاليين، في حال لم يتوازَ ذلك مع إصلاح أجهزة الدولة كلها، سياسياً وقانونياً ومجتمعياً.

المساهمون