يفتح قرار إعادة تفعيل الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في ليبيا، المغلقة منذ 7 سنوات، الباب أمام دخول القضاء على خط الأزمة، بعدما مرت البلاد بعدة منعطفات طاولت المسارات الدستورية والعسكرية والسياسية.
وأمرت الجمعية العمومية بالمحكمة العليا في ليبيا، أمس الخميس، بإعادة تفعيل الدائرة الدستورية المعطلة من قبل المحكمة لأسباب تتعلق بإبعاد القضاء عن تأثيرات الانقسام السياسي الذي بدأ عام 2014، فهل تعيد الدائرة الوضع لأشبه بما كان يدور في تلك الفترة؟
وفي كلمة لرئيس المحكمة العليا، محمد الحافي، أمس الخميس، أمام أعضاء الجمعية في طرابلس عقب الإعلان، أكد أن هذا الإجراء جاء لغرض "النظر في الطعون والفصل فيها"، دون أن يحدد ما هي الطعون، معاهداً الليبيين بأن المحكمة "لن تنحاز لأي طرف من الأطراف، وأنها سوف تعلي شأن الوطن والمبادئ والقواعد الدستورية المقررة".
وبحسب القانون الليبي، تختص الدائرة الدستورية في الفصل بالقضايا والطعون ذات الجانب الدستوري والقانوني، والقضايا والخلافات حول القوانين والتشريعات والقرارات التي تصدر عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأيضاً أي مخالفة أو طعن في الإعلان الدستوري.
ويأتي تفعيل الدائرة في وقت حرج للغاية من مسار أزمة البلاد، خاصة تعثر إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ديسمبر/كانون الأول الماضي لأسباب دستورية مرتبطة بقوانين الانتخابات التي اتهم رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح بالانفراد في إصدارها، دون تصويت النواب، أو التوافق مع المجلس الأعلى للدولة.
النواب يصمت والدبيبة يرحّب
ولاقى قرار إعادة تفعيل الدائرة الدستورية صمتاً من مجلس النواب وحكومته (برئاسة فتحي باشاغا)، فيما تعالت أصوات أخرى مرحبة، أبرزها رئيس الحكومة الوطنية عبد الحميد الدبيبة الذي غرد على حسابه في "تويتر"، قائلاً: "نبارك قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا بعودة تفعيل الدائرة الدستورية، لعلها تكون رادعا للتجاوزات التي تمارس من الأطراف والقرارات المخالفة للاتفاق السياسي باعتباره الوثيقة الدستورية الحاكمة للمرحلة؛ استقلال القضاء ووجود دستور حاكم أساس لاستقرار البلاد".
ولاقت عودة الدائرة الدستورية ترحيباً أيضاً من حزب العدالة والبناء، الذي تنتمي له كتلة كبيرة من أعضاء المجلس الأعلى للدولة.
وسبق أن طالب بعودة الدائرة الدستورية نشطاء وفئات سياسية عديدة، أبرزهم رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، لكن الأخير لم يعلن عن موقفه بعد من هذا القرار.
الكل سيطعن ضد الكل
وفيما يشير الباحث في الشأن السياسي، شعبان بالنور، إلى أن الاتفاق السياسي الموقع عام 2015 سيكون عرضة للطعن، فهو يستبعد حدوث ذلك حالياً.
ويتوقع بالنور في حديث لـ"العربي الجديد"، أن يكون محور الطعون التي ستتهافت على الدائرة "تلك المتعلقة بالصراع الحكومي، والمسار الانتخابي، ودستور البلاد".
ويقول: "الكل سيطعن ضد الكل، هذا مؤكد، فمن المتوقع أن يطعن في التعديل الدستوري الثاني عشر في الاعلان الدستوري الذي أجراه مجلس النواب في فبراير/شباط الماضي وأدى لظهور حكومة فتحي باشاغا".
وأكمل "هذا بالإضافة للطعن في فتح مسودة الدستور لغرض تعديلها من قبل اللجنة المشتركة بين مجلسي: النواب والدولة".
وأوضح أن "الرؤى تتفاوت بين المجلسين، بينما يرغب مجلس الدولة بفتح المسودة على تعديلات الخروج بوثيقة دستورية تنظم الانتخابات، ولدورة واحدة، يريد مجلس النواب من جهته عرض المسودة بعد التعديل للاستفتاء العام عليها، كدستور دائم للبلاد، ثم تنظيم الانتخابات بناء عليه".
وبحسب بالنور، فإن "القضايا التي من المتوقع أن تستقبلها الدائرة الدستورية أيضاً تشكيل ملتقى الحوار السياسي، وخريطة الطريق التي خرج بها مطلع العام الماضي، اللذان أفرزا السلطة التنفيذية الحالية، مجسدة في المجلس الرئاسي، وحكومة الوحدة الوطنية".
وساهمت الدائرة الدستورية منذ نهاية عام 2014 في تشكيل المشهد السياسي الحالي، وذلك حين قضت بعدم قانونية انتخاب مجلس النواب، الأمر رفضه الأخير، مدعياً أن الحكم صدر تحت ضغط مجموعات مسلحة في طرابلس.
ومن ناحية أخرى، أعاد الحكم المؤتمر الوطني العام إلى السطح السياسي، ليتحول بعد الاتفاق إلى المجلس الأعلى للدولة، الأمر الذي فتح الباب أمام انقسام سياسي استمر إلى اليوم في صور ومشاهد متعددة، آخرها الصراع على السلطة التنفيذية الناشئ بعيد فشل الانتخابات، وذلك بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة، عبد الحميد الدبيبة، التي ترفض تسليم السلطة إلا بعد الانتخاب، والحكومة المكلفة من مجلس النواب، برئاسة، فتحي باشاغا، الساعية لتسلم السلطة.
انخراط القضاء في الصراع السياسي
ويرى الصحافي سالم الورفلي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ملامح انخراط القضاء في الصراع السياسي قد بدأت فعلياً، مبيناً أن "توقيت صدور قرار إعادة تفعيل الدائرة الدستورية، وصمت مجلس النواب حتى الآن، قد يكون على علاقة بمصادقة الأخير في جلسة الثلاثاء الماضي على تعيين قائمة من 45 مستشاراً بالمحكمة العليا".
ونوه إلى "توجيه رئيس المحكمة العليا، محمد الحافي، خطاباً لمجلس النواب عقب صدور قرار تعيين مستشارين".
وتضمن خطاب الحافي وصف قرار تعيين مجلس النواب 45 مستشاراً بالمحكمة العليا بـ"المغالف للقوانين"، قائلاً "لن يقبل بتعيينهم ولن يعتد بأي إجراء مخالف للقانون، حفاظا على هيبة واستقلال القضاء".
وأكد الحافي أنه أرسل خمسة خطابات خلال العامين الأخيرين يقول فيها إن المحكمة "لم تطلب أي تعديل لقانونها، ولم تحل أي خطاب رسمي لطلب تعيين مستشارين بالمحكمة".
وأشار إلى قرار الجمعية العمومية للمحكمة في 14 إبريل/نيسان الماضي القاضي بـ"عدم الاعتداد بأي قرار أو إجراء مخالف للقانون، وضرورة التشاور معها؛ صـوناً لاستقلال وهيبة مؤسسة المحكمة العليا والقضاء الليبي".
وطالب الحافي، رئاسة المجلس والنواب بـ"مراعاة ما تقدم من معطيات ومعالجة الأمر بما يحفظ هيبة واستقلالية القضاء، وبما يؤكد مصداقية مجلس النواب وسعيه إلى ترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات".
وأكد أن المحكمة "ستقبل قرار مجلس النواب في حال استبعاد من انتهت صلاحية ولايته القانونية، وبلغوا سن التقاعد المقررة بقانون المحكمة العليا الخاص".
ملامح صدام بين القضاء والنواب
ولا يعد هذا الصدام "الأول من نوعه بين النواب ورئيس المحكمة العليا"، بحسب الورفلي، فقد سبق أن رفض الحافي الإقرار بالقانون رقم 11 لسنة 2021، الصادر عن المجلس، والقاضي بإعادة هيكلة النظام القضائي، ونقل رئاسة المجلس الأعلى للقضاء من رئيس المحكمة العليا إلى رئيس التفتيش القضائي، لكنه في الوقت ذاته يعبر عن مخاوفه من بروز ملامح الصدام مجدداً بين القضاء ومجلس النواب في هذا التوقيت الذي تتجه فيه الأوضاع السياسية إلى انسداد محلي كبير، يقابله فشل دولي في تعيين مبعوث أممي يمكن أن يوازن وجوده الأوضاع ويمنع انزلاقها إلى منحيات خطيرة.
وعبر الورفلي عن خشيته من "أن يكون وراء إعادة إحياء الدائرة الدستورية في هذا التوقيت طرف سياسي مثل حكومة الدبيبة وحلفائه فهو أول المرحبين بالقرار، وسبب ذلك قد يكون شعور الحافي ومجلس القضاء بالإقصاء والاستهداف من مجلس النواب الذي يمثل طرفاً سياسياً وفقد صفته التشريعية".