كيف غيّرت سنوات الحرب اليمنية صنعاء؟

26 مارس 2022
عناصر حوثيون بصنعاء، أول من أمس الخميس (محمد حويس/فرانس برس)
+ الخط -

في مشوار بسيارة أجرة في العاصمة اليمنية صنعاء، كان الشاب الثلاثيني عصام الصلوي يسير ببطء وينظر إلى مؤشر البنزين بقلق بالغ خشية من نفاد الوقود في سيارته. وقال معتذراً عن عدم سرعته: "أخشى أن ينتهي البنزين وأنا لم أجمع المبلغ الكافي لمصروف العائلة اليومي وتوفير الإيجار الشهري للسكن".

كانت تقاسيم وجهه شاحبة، وعلى لوحة السيارة أوراق وكتب، وعلى غير عادة سائقي الأجرة في اليمن الذين يتحدثون مع زبائنهم باستمرار، كان الصلوي صامتاً وبدأ بتقليب موجات الإذاعات، وكلها في موعد إخباري، قبل أن يبرز إعلان لشركة تبيع زبدة، فقال متسائلاً: "هل هناك ناس يشترون هذه البضائع غير فئة محدودة؟".

سألته من يقصد، فرد متوجساً: "موظفو المنظمات والقيادات الجديدة"، في إشارة إلى قيادات جماعة الحوثي. الصلوي كان موظفاً حكومياً في وزارة التربية والتعليم، لكنه اضطر للعمل على سيارة الأجرة بعد توقف راتبه في أواخر عام 2016، ويعمل مدّرساً أيضاً في إحدى المدارس الخاصة براتب زهيد.

وقال لـ"العربي الجديد": "أعمل ساعات طويلة وغير محدودة يومياً، لكني ما زلت أعجز عن توفير غالبية الاحتياجات للمنزل". وأضاف: "لقد تغير كل شيء منذ بداية الحرب في صنعاء، ولم تعد هذه المدينة تشبهنا، فقد تحوّلت إلى سجن كبير وهناك مأساة في كل منزل، والأشخاص الذين كانت حالتهم المادية جيدة تحولوا إلى فقراء، وهناك موظفون حكوميون كبار يعيشون حياة سيئة للغاية". 

 

ارتفاع الأسعار بشكل جنوني

وتعيش صنعاء على وقع ارتفاع الأسعار بشكل قياسي خلال السنوات الماضية، وذكر الصلوي: "قبل الحرب كنت أمتلك سيارة خاصة، وكان ثمن غالون البنزين البالغة سعته 20 ليتراً ثلاثة آلاف ريال (5 دولارات)، ولم تكن مشكلة بالنسبة لي وللكثيرين، لكن الآن أشعر بالخوف كلما انخفض مؤشر البنزين لأني أشتري الغالون بنحو ثلاثين ألف ريال (50 دولاراً) من السوق السوداء".

وأضاف: "نتسلّم كل أربعة أشهر نصف راتب (ما يعادل 50 دولار)، ومقابل هذا يفرضون علينا أن نسجل حضورنا في المكاتب الحكومية أو المدارس التي كنا نعمل بها، وإلا فسيتم فصلنا نهائياً من الوظائف"، معتبراً أنهم "يحاولون إذلال الجميع ويريدون أن نعمل بلا مقابل ولا يفكرون من أين سننفق على أسرنا".

وخلال الشهرين الماضيين، ارتفعت الأسعار بنسب كبيرة لمعظم السلع الأساسية بالإضافة إلى المشتقات النفطية والغاز، لكنها كانت في ارتفاع دائم خلال السنوات الماضية أيضاً، في ظلّ انقطاع رواتب الموظفين وتدني مستوى المعيشة لدى غالبية اليمنيين، في الوقت الذي يحرص فيه الحوثيون على فرض الجبايات، والتي تنعكس على الأسعار، في حين أن تلك الإيرادات تذهب لجبهات القتال.

وخلال السنوات الماضية، تحوّل "الغاز المنزلي" إلى أزمة مستدامة لدى السكان في صنعاء، ولا يحصل عليه المواطن بسهولة إلا من السوق السوداء فقط، إذ يصل سعره إلى 18 ألف ريال (30 دولاراً) وكان قبل الحرب يعادل دولارين.

كما بات الانقطاع الكلي للكهرباء بمثابة تجارة خاصة مربحة، عبر توزيع مولدات في أحياء العاصمة صنعاء التي تغير الكثير من ملامحها خلال السنوات الماضية، مع نمو أحياء جديدة في ظل خفوت وهج أخرى كانت محوراً للحياة السياسية والثقافية. وتحول شارع حدة، الذي كان يعرف بحي يسكن فيه السياسيون والعسكريون وقيادات الدولة، إلى مقرات للمنظمات الدولية وموظفيها الكبار.


اشترى الحوثيون العقارات في العاصمة بعد شرائهم المنازل الشعبية الصغيرة

أما قيادات الحوثيين ومسؤولوهم، فلا تُعرف في العادة منازلهم الخاصة لحسابات أمنية، إلا تلك التي بدأت في التكون من فترة ما قبل اندلاع الحرب في حي الجراف في شمال العاصمة.

أما العقارات والممتلكات فهي موزعة في كل الأحياء، ووفق مصادر مطلعة "فإن قيادات الحوثيين عمدوا إلى شراء وبناء العقارات في معظم الأحياء، حيث يشترون المنازل الشعبية الصغيرة في الأحياء ويهدمونها ويبنون على أنقاضها عمارات".

وفي شارع الستين، تبدو آثار الإهمال على منزل الرئيس عبد ربه منصور هادي، المقيم في العاصمة السعودية الرياض منذ مغادرته صنعاء مطلع مارس/آذار 2015، وتمّت إزالة الحواجز الإسمنتية والسواتر العالية، وتظهر البوابة الرئيسية للمارة، وقد تحوّلت لموقف للسيارات، مع تكدّس أكياس بلاستيكية وأشجار ميتة حول المنزل.

وكانت جماعة الحوثي قد سيطرت على صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، ما أدى لفرار هادي وحكومته المعترف بها دولياً. وعقب ذلك، تدخل التحالف الذي تقوده السعودية عسكرياً في 26 مارس 2015، بهدف ما تقول إنه "إعادة الحكومة وهزيمة الحوثيين"، لكن ذلك لم يحدث إلى الآن، وسط أزمة إنسانية هي الأسوأ في العالم.

ويدرك أهالي صنعاء أنهم ضحايا لتجار الحروب وصراعات لمشاريع إقليمية أكلت من قوتهم ومن معيشتهم ومستقبل أطفالهم، ولم يعودوا يكترثون لتلك الشعارات التي تسوقها لهم الأطراف المختلفة، سواء الحكومة المعترف بها دولياً أو الحوثيون الذين يسحقونهم في الداخل.

تعرضت صنعاء ومحيطها لأعنف العمليات الجوية من قبل التحالف الذي تقوده السعودية، ما أدى إلى دمار واسع في البنية التحتية. ولا توجد إحصائيات دقيقة عن حجم الخسائر المادية، لكن وفقاً لمشروع بيانات اليمن، فقد نفذ التحالف خلال السنوات الماضية 4156 غارة في صنعاء وأمانة العاصمة، أسفرت عن سقوط 4871 ضحية ما بين قتيل وجريح.

ويقدّر عدد النازحين المحتاجين بنحو 350 ألف شخص بحسب تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، وهذه أرقام المحتاجين منهم فقط، لأن العديد من النازحين المقتدرين أتوا من المناطق التجارية في الحديدة (غرب) ومدينة حرض في حجة (شمال غرب).

ووسعت الحرب رقعة الفقر والحاجة للمساعدات الإنسانية، ويقدر عدد المحتاجين 4.3 ملايين شخص، وفق تقرير "أوتشا" الصادر في العام الماضي.

وما زالت الدائرة تتسع، بالإضافة إلى الحرمان من التعليم، مع اضطرار الكثير من الأطفال إلى ترك التعليم، فيما لا تتلقّى البقية تعليماً كافياً، مع تقلّص فترة الدارسة إلى أقل من النصف قبل أن تنقطع رواتب المعلمين في أغسطس/آب 2016.

تغيير هوية صنعاء

من جهته، ما زال محمد البعداني يعيش على وقع صدمة من التدهور في شكل صنعاء، وبدا منزعجاً من الألوان الخضراء المنتشرة في المدينة وشعارات جماعة الحوثي التي تملأ الشوارع وصور القتلى المنتشرة بكثافة في كل مكان.

وقال لـ"العربي الجديد" إنه فوجئ بجدران صنعاء القديمة وباب اليمن التي غزتها ألوان وشعارات مشوّهة منظر وشكل المدينة التاريخية. وأضاف: "حتى الخدمات البسيطة التي تخص النظافة لا أحد يهتم بها، القمامة تتكدس في الشوارع والمجاري تنفجر وتظل تخنق الناس لأيام".

وتابع البعداني، الذي غادر صنعاء بعد اندلاع الحرب: "للأسف الناس لم يعودوا يستنكرون كل هذا العبث الذي يجري في العاصمة صنعاء، لأنهم اعتادوا عليه ولأن سلطات الأمر الواقع تهمل كل الخدمات وتبرر ذلك بأنها في حالة حرب، ولا يجرؤ أحد على المطالبة خوفاً منهم".

وتعمدت جماعة الحوثي خلال السنوات الماضية تغيير هوية صنعاء، سواء في الشعارات والألوان الخضراء التي تفرضها خلال المناسبات الدينية التي يحتفلون بها، وأبرزها المولد النبوي، أو تلك الصور الكبيرة لقيادات من الجماعة أو إيرانية أو من حزب الله التي تملأ الشوارع.

والباعة المتجولون أيضاً وجدوا في تلك الصور والشعارات مصدراً للرزق بالإضافة إلى الأقراص المضغوطة لـ"زوامل" (فن شعبي) حوثية. وعزز الحوثيون في صنعاء من سطوتهم على ثقافة الناس وحرياتهم الاجتماعية، في المقاهي والجامعات والفعاليات العامة النادرة، وأقروا مجموعة ضوابط لمظهر الطلاب في الجامعات، ومنعوا المقاهي المختلطة وأقفلوا العديد منها بشكل نهائي، ويشنون حملات ما بين والحين والآخر على محلات الملابس وصور النساء في لوحات المحلات التجارية.


لا أحد يتحدث بالسياسة في صنعاء سوى الحوثيين

"لم تعد وسائل النقل العامة في صنعاء تشهد سجالاً في الحديث عن مواضيع سياسية كما كانت في السابق، ما عدا الحوثيون الذين يتحدثون بصوت مرتفع بينما يسكت الجميع"، وفقاً للناشط الاجتماعي رياض علوي.

وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد": "ليس هذا فحسب، بل يضعون مكبرات صوت أحياناً وشاشات في بعض الشوارع لعرض كلمات قياداتهم، وحتى المكبرات الخاصة بالمساجد تُستخدم لبث كلمات زعيم الحوثيين".

وعقب سيطرة جماعة الحوثي على صنعاء، تم إغلاق كافة القنوات والصحف المستقلة والتي تتبع الأحزاب السياسية المختلفة، وحجبت جميع المواقع الإلكترونية المحلية والعربية، وتم اختطاف المئات بسبب آرائهم، حتى أوصلوا السكان إلى مرحلة الصمت الكلي وعدم الحديث خوفاً من العواقب.

ومع سنوات الحرب، تطورت آلة الحوثيين في السيطرة والقمع، بدءاً بالمؤسسات الإعلامية، من ثم مُنعت الفعاليات والندوات والمنظمات والمبادرات غير الخاضعة لسيطرتهم كلياً، وصولاً إلى مراقبة منتقديهم في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم في الأحياء عبر المشرفين وعقال الحارات، الذين يعملون في العادة ضمن الأجهزة الأمنية التابعة للحوثيين.

ولا يُسمح لأي شخص بتسلّم حصته من الغاز إلا بعد عرض الهوية وتدوين البيانات، وتُستخدم وسيلةً لحشد المواطنين في التظاهرات أو المحاضرات الدينية التي تقام في الأحياء بالإضافة للجبايات أيضاً.

وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، ظهرت خلافات بين قيادات الحوثيين في صنعاء في المؤسسات الحكومية التي يديرونها، وخرج متحدثون من أنصارهم عن الفساد الذي تمارسه القيادات، وجرى اعتقالهم وممارسة الانتهاكات ضدهم، بصورة مشابهة لتلك التي يفعلونها مع خصومهم الذين يتهمونهم بأنهم تابعين للتحالف الذي تقوده السعودية الذي يصفونه بالعدوان.

وفي مطلع العام الحالي، تم اعتقال ناشط حوثي في صنعاء يدعى عبد الرحمن المؤيد، للمرة الثانية، بعد نشر وثائق لقضايا فساد تخص قيادات الجماعة حول المساعدات الإنسانية، ونشر سلسلة فيديوهات يسرد فيها ما تعرض له من انتهاكات، وهذا يأتي في سياق خلافات بين القيادات الحوثية.

تركّز الثراء لدى الحوثيين

ويعتقد الكثير من السكان في صنعاء أن الثراء يتركز لدى قيادات الحوثيين، إلى جانب أن موظفين في المنظمات الدولية العاملة في مجال المساعدات الإنسانية وبقية المشاريع هم من الطبقات ذات الدخل الأكبر، مقارنة بجميع الوظائف المتوفرة في السوق المحلية، وتلك صورة نمطية سادت خلال سنوات الحرب الماضية.

ويتساءل كثير من السكان عن مصدر الثروات التي تظهر في الأحياء المختلفة بالعاصمة صنعاء، وارتفاع أسعار العقارات بأضعاف مبالغ فيها وتختلف من حي لآخر.

ففي حي السنينة الشعبي، يبلغ سعر اللبنة (قالب طوب بمساحة 44 متراً مربعاً) ما يعادل نحو 50 ألف دولار، بينما لم يكن يتجاوز 20 ألف دولار، وفق سكان محليون، في الوقت الذي تعصف المجاعة بمئات الآلاف من السكان والملايين بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، وفق ما تتحدث التقارير الأممية.


ظهرت خلافات بين الحوثيين بسبب الفساد المتفشي

عبد العليم هائل باع عقاراً وأودع مبلغاً مالياً كبيراً يقدر بأكثر من 60 ألف دولار في أحد المصارف اليمنية الحكومية، لكنه يشكو حالياً من عدم قدرته على سحب أمواله.

وقال لـ"العربي الجديد" إن المصرف يسمح له شهرياً بسحب ما يعادل 50 دولاراً، ويبررون ذلك بسبب نقل المصرف المركزي إلى عدن من قبل الحكومة الشرعية.

وفي الوقت الذي لا يستطيع هائل الحصول على أمواله، يتم ضخ سيولة نقدية وشراء العقارات والبناء بسرعة فائقة في عملية غسيل أموال واسعة تشهدها البلاد في الحرب، فاعتبر أن "البناء المتسارع للقيادات الحوثية هو جزء من أموال المواطنين المودعة في المصارف قبل الحرب، بالإضافة إلى إيرادات الدولة التي لا يرى منها المواطن أي خدمات عامة".

ولم يعد هناك أي مظهر للحياة السياسية في صنعاء ولا صوت يعلو فوق صوت الحوثيين. وتكرس ذلك خصوصاً بعد الخلاف بين الحوثيين وأنصار الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، إذ اندلع صراع مسلح انتهى بمقتل الأخير في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2017، وبدأت المرحلة الأخرى من التفرد الحوثي بقمع من نوع آخر لحلفائهم في حزب المؤتمر.

في الجانب الآخر من الحراك السياسي الدولي خلال السنوات الماضية، يزور مبعوثو الأمم المتحدة صنعاء للقاء قيادات الجماعة من وقتٍ إلى آخر، لكن ذلك توقف على الأقل خلال العامين الماضيين، إذ كان الحوثيون يرفضون مقابلة المبعوث الأممي السابق مارتن غريفيث في العام الأخير من ولايته التي انتهت في يوليو/تموز الماضي، في حين لم يزر خلفه هانس غروندبرغ صنعاء منذ تعيينه.