يجمع عددٌ كبير من المتابعين والباحثين الأميركيين، وكذلك وجوه قيادية ومفكرون من التيار الليبرالي، على أنه لا بد من محاسبة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بشكل ما، على حجم الفوضى الذي خلّفته ولايته الرئاسية، من أجل إنقاذ مستقبل الديمقراطية في الولايات المتحدة. لكن المعطيات المتوفرة، لا تمنح الكثير من التفاؤل في هذا الموضوع. فقد تمكن ترامب، الذي استفاد من امتيازاته الرئاسية، من العفو عن كثير من الموالين له والنجاة من مقصلة العزل مرتين، وتوسيع الهوة بين حزبه الجمهوري والقاعدة الشعبية المحافظة، أو جعلها أكثر وضوحاً. لكن النفور الشعبي لم يدفع الجمهوريين لتدارك الخطر، والاستفادة من عبرة انتخاب ترامب رئيساً عام 2016، بل مارسوا الكسل المفرط طوال أربع سنوات من عهده، منتفعين منه ومن تصريحاته وإجراءاته الشعبوية، دون التحرك للحدّ من تداعياتها. وبعد أكثر من شهر على تنصيب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، لا تبدو مفاعيل "الكذبة الكبيرة" التي سعى ترامب طوال أشهر للترويج لها، والتي تتمحور حول فكرة "سرقة الانتخابات" منه، وأفضت إلى مشهد اقتحام مقر الكونغرس في 6 يناير/ كانون الثاني الماضي، آيلة للزوال سريعاً، رغم غياب الأخير جزئياً عن المشهد. فهذه السردية، سيكون لها تأثيرها بلا شك على الاستحقاقات الانتخابية القريبة، لكن الخشية، بحسب "واشنطن بوست"، هي أن يكون من صوّتوا داخل الكونغرس من الجمهوريين لعزل ترامب الوحيدين الذين سيعاقبون في المدى القريب.
وكانت تقارير عدة قد استبقت تصويت مجلس الشيوخ الذي جرى في 13 فبراير/ شباط الحالي، لعزل ترامب بتهمة التحريض على تمرد الكونغرس الذي نفذّه أنصاره في 6 يناير الماضي، والذي فشل في تأمين أكثرية الثلثين له، بالإضاءة على وسائل أخرى لمعاقبته. ومن وسائل المعاقبة التي لم يتم اللجوء إليها استخدام المادة 3 من التعديل 14 في الدستور الأميركي، الذي تمّت المصادقة عليه عام 1868 بعد الحرب الأهلية. وتقول المادة إن "أي موظف في الولايات المتحدة، انخرط في تمرد أو عصيان ضد الدستور، أو قدّم مساعدة أو منح الأمان للأعداء، يجب أن يمنع من تبوؤ أي منصب مدني أو إداري أو عسكري" في البلاد. وقد كان من الممكن للكونغرس أن يفرض، وفق المادة، حظراً على ترامب من تقلد أي منصب في السلطة مستقبلاً، دون الحاجة لإدانته في مجلس الشيوخ.
كان يمكن معاقبة ترامب باستخدام المادة 3 من التعديل 14 في الدستور الأميركي، الذي تمّت المصادقة عليه بعد الحرب الأهلية
ومع انتهاء جلسة المحاكمة، التي أفضت إلى تبرئة ترامب، أكد السيناتور الجمهوري وزعيم الأقلية في "الشيوخ"، ميتش ماكونيل، أن الرئيس السابق لم يفلت من العقاب، وأنه من الممكن ملاحقته في المحاكم الجنائية والمدنية. لكن الطريق لذلك طويل، وقد يؤدي إلى مفعول عكسي، عبر استمرار تسليط الضوء واستمرار ضخّ الحياة في "الكذبة الكبيرة"، الذي جعل ترامب ملايين الأميركيين مصدقين لها.
وإلى جانب بعض الإعلام الأميركي الذي يواصل "النفخ" في هذه الكذبة، يبدو أن عدداً وافراً من الدعاوى قد بدأت ترفع لمعاقبة ترامب وعدد من محامييه، الذين شككوا في انتخابات 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي الرئاسية، ونتائجها. لكن بحسب "واشنطن بوست"، فإن هذه الدعاوى قد تأخذ سنوات، وقد يكون مفعولها السريع هو السماح لـ"المتهمين" بمواصلة الدفاع عن نظرياتهم. وهذه النظريات هي الخزّان الذي لجأ إليه ملايين الأميركيين، من عمال الياقات الزرقاء، للتعبير عن إحباطهم إثر خسارة ترامب. وبحسب "وول ستريت جورنال"، فإن على الحزب الجمهوري، المرهق من ترامب، والذي قد تساوي نسبته المئوية أولئك النواب والسيناتورات الذين صوتوا لعزل ترامب في محاكمته الثانية، التواصل مباشرة مع القاعدة التي صوّتت للأخير، وهي بالمجمل تؤمن بأفكار الحزب التقليدية، وترى في العولمة والصين و"الاتفاق الجديد" والنظريات "الخضراء" كل ما يمكن أن يحرمها من فرص العمل.
هكذا، تبدو الدعاوى المرفوعة ضد ترامب وأتباعه وفريقه وكلّ من "بلّ يده" في مزاعمه، وكذلك الخيار الآخر الذي من الممكن أن ينتهجه الحزب المحافظ لتصحيح الخلل بين قيادته والقاعدة، مترابطين. ففي المسار الأول، تستمر فوضى ترامب، ولو بهدف المحاسبة، أما في الثاني، فإمكانية القضاء على أي سبيل أمام الأخير ليكون "الحامل الوحيد" لشعلة الحزب الجمهوري. لكن المسار الأول هو ما بدأ انتهاجه.
وبالفعل، فقد بدأت الدعاوى تتدفق في الولايات ومقاطعاتها لمحاسبة رافعي "الكذبة الكبيرة" والمروجين لها. وطلبت ولاية ميشيغن ومدينة ديترويت أخيراً، من قاضٍ فدرالي، حظر المحامين الذين رفعوا دعاوى ادعت أن انتخابات نوفمبر هي عملية احتيال. وفي مدينة أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا، قامت المدعية العامة في مقاطعة فولتون، فاني ويليس، بإطلاق تحقيق جنائي حول ما إذا كان ضغط قد مورس من قبل ترامب وحلفائه للانقلاب على نتائج الاقتراع في الولاية. وفي ويسكونسن، قد تفتح جبهة مماثلة قريباً في مقاطعة ميلووكي. بالإضافة إلى ذلك، فقد رفعت دعاوى تشهير عدة ضد حلفاء لترامب، في السياق نفسه، ما يشكل بداية لسيل من الدعاوى المرتبطة بالانتخابات، وباقتحام الكابيتول. كما رفعت مجموعات متنوعة أو أفراد يعتبرون أنفسهم متضررين من "أكاذيب" ترامب، دعاوى، من بينهم شركتا التكنولوجيا "دومينيون فوتينغ سيستم" و"سمارتماتيك". وهذه الخطوات تستهدف ترامب ومحاميه ووجوهاً في الإعلام الأميركي. أما الهدف فهو معاقبة أولئك الذين ساهموا في تقليص الثقة بالعملية الانتخابية، ولجم مسؤولين آخرين في السلطة من استعادة استراتيجية ترامب في المستقبل. لكن "واشنطن بوست" حذّرت من أن يوفر ذلك لأصحاب نظريات المؤامرة منتديات جديدة ومنصات لنشر سردياتهم وادعاءاتهم. وفي هذا السياق، قال محامي ترامب السابق، رودوي جولياني، الذي تستهدفه دعاوى عدة في هذا الخصوص، في رسالة نصية للصحيفة، إن الدعاوى "ستقدم لي فرصة لإيصال الحقيقة (سرقة الانتخابات)، متخطياً الستار الحديدي لشركات التكنولوجيا والحظر الذي يفرضه (عليه) معظم الإعلام".
لا تزال أكثر الدعاوى جدّية هي التي أدين فيها 225 شخصاً بتهم مرتبطة باقتحام الكابيتول
ولا تزال أكثر الدعاوى جدّية هي التي رفعت وأدين فيها 225 شخصاً بتهم مختلفة مرتبطة باقتحام الكابيتول. لكن المسؤولين في وزارة العدل استبعدوا رفع دعاوى مماثلة ضد ترامب وآخرين، على الرغم من تأكيدهم أن هذه القضية "معقدة" والتحقيق (في الاقتحام) لا يزال متواصلاً. لكن حتى من دون الادعاء عليه، فإن عدداً من محامي المتهمين في الحادثة أكدوا أن دفاعهم سيشمل المحاججة بأن موكليهم انصاعوا لتوجيهات ترامب.
على المقلب الآخر، ليس فريق ترامب أقل استعداداً للرد، مستخدماً سلاح حرية التعبير والحقوق المدنية. وفي دعوى لها خلال الشهر الحالي، قالت المحامية ستيفاني لامبرت جانتيلا، ممثلة فريق المحامين الموالي لترامب، إن طلب عدد من الدعاوى فرض حظر عليهم وعلى عملهم، "لا أساس قانونياً له"، وغير "ملائم إجرائياً"، و"محاولة لخلق سابقة خطيرة من الممكن أن تمنع مشتكين آخرين يرون بأن حقوقهم الانتخابية أو المدنية قد انتهكت، من إيصال شكواهم إلى المحاكم".
في الأثناء، لا يزال بعض الإعلام الأميركي الموالي لترامب، والمحسوب على اليمين المحافظ، يردد أصداء من أكاذيب ترامب. وانتقد مات نيغرين، الناقد المتخصص في برامج الحوارات التلفزيونية المرتبطة بالشأن العام، في حديث لـ"سي أن أن"، منح قناة "أي بي سي" أخيراً 10 دقائق من الهواء للنائب ستيف سكاليز، الذي عاد ليكرر مزاعم ترامب، مذكراً بأن "المحامين الرافضين لنتائج الانتخابات قد منحوا بدورهم خلال الأسابيع الماضية فرصاً عدة للظهور على شاشات التلفزة. وكتب الباحث كايت ستاربيرد: "إن الكذبة الكبيرة، تملك عدداً من مزايا حملة تشويه الحقائق الكلاسيكية، ومنها زرع بذور الشك، والدفع بروايات متعددة (لحدث ما) والعمل على تقويض الديمقراطية".