حسابات إسرائيلية لما بعد هدنة غزة: استمرار الحرب أم توقفها؟

حسابات إسرائيلية لما بعد هدنة غزة: استمرار الحرب أم توقفها؟

27 نوفمبر 2023
غانتس وغالانت ونتنياهو في مؤتمر صحافي، 28 أكتوبر الماضي (فرانس برس)
+ الخط -

أكمل وقف إطلاق النار المؤقت والهدنة الإنسانية بين حركة "حماس" وإسرائيل، أمس الأحد، يومه الثالث. وقد التزم الطرفان لغاية الآن، إلى حد بعيد، بشروط الاتفاق، وحرّرت "حماس"، في اليومين الأولين من الهدنة، أي الجمعة والسبت، 26 إسرائيلياً من النساء والأطفال، فيما أطلقت إسرائيل سراح 78 أسيرة وطفلا فلسطينيا من السجون الإسرائيلية، وأوقفت الطلعات الجوية فوق أجواء جنوب قطاع غزة، ولمدة 6 ساعات فوق أجواء شمال القطاع، ودخلت مئات الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية والطبية إلى غزة عبر معبر رفح.

ومن المتوقع أن يتم تمديد الهدنة لعدة أيام بغية استكمال إطلاق سراح النساء والأطفال. لكن السؤال المطروح إسرائيلياً الآن هو ماذا سيكون الوضع بعد انتهاء أيام الهدنة؟ هل تستأنف إسرائيل الحرب والحملة البرّية وتوسيعها نحو جنوب القطاع، أم يتحول وقف إطلاق النار المؤقت إلى حالة دائمة وتتوقف الحرب. الجواب عن هذا التساؤل ليس بسيطاً، بحيث هناك عوامل تدفع باتجاه استمرار الحرب وتوسعها، وهناك عوامل قد تدفع باتجاه وقف إطلاق دائم وإنهاء هذه الحرب.

المؤسسة الأمنية تدفع باتجاه استمرار الحرب

تدفع المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية إلى استمرار الحرب وتوسيعها بعد انتهاء أيام الهدنة، حتى لو جرى تمديدها لأيام عدة محدودة. وتشدد المؤسسة العسكرية على أهمية استمرار التوغل البرّي ومحاولة تحقيق هدف القضاء على قدرات حركة "حماس" العسكرية والإدارية السياسية. وتحذر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من أن "حماس" ترغب بتحويل وقف إطلاق النار إلى حالة دائمة لأن وقف النار دون القضاء على قدراتها، يعني، في ما يعني، انتصاراً للحركة، حتى وإن لحق بها ضرر كبير نتيجة الحرب لغاية الآن.

عودة المخطوفين قد تدفع لتغيير الوضع النفسي للمجتمع الإسرائيلي

قيادات المؤسسة العسكرية وعلى رأسهم وزير الأمن يوآف غالانت وقائد الأركان هرتسي هليفي، شددوا في تصريحاتهم خلال الأيام الأخيرة على هذا الموقف. ففي لقاء لغالانت مع قيادات الجيش الميدانية في شمال قطاع غزة، شدّد على أن الجيش "لن يخرج من قطاع غزة حتى تتم استعادة جميع الرهائن الإسرائيليين لدى فصائل المقاومة في القطاع وإتمام مهمة القضاء على قدرات حماس". وقال غالانت إن أي مفاوضات مستقبلية قد تجري عبر وسطاء مع حركة "حماس" للإفراج عن مزيد من الرهائن والأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، ستتم "تحت النار". وبذلك يعود غالانت إلى موقفه بأن تحرير الأسرى والمخطوفين يمكن أن يتحقق فقط عبر الضغط العسكري والدمار والضغط على "حماس"، وأن هدف الحرب الأساسي هو القضاء على قدرات "حماس".

وفي لقاء لرئيس الأركان مع وحدات من الجيش الإسرائيلي، صرّح مرة أخرى، أن الجيش سيعود فور انتهاء وقف إطلاق النار إلى هجومه في غزة، "لأننا نفعل هذا أيضاً لتفكيك حماس، ولإيجاد أكبر قدر من الضغط من أجل إعادة أكبر عدد من الرهائن". وقال إن الجيش الإسرائيلي "سيستمر في الحرب حتى القضاء على أي تهديد أمني من قطاع غزة".

تصريحات غالانت وهليفي ترفع سقف التوقعات وأهداف الحرب بشكل واضح، وتعكس مخاوف المؤسسة العسكرية وعدد من القيادات السياسية، أبرزهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، من تأثير الهدنة على تراجع أو تباطؤ تقدم العمليات العسكرية في غزة، أو وقفها بشكل تام، لأن ذلك يعني أن إسرائيل لم تحقق أياً من الأهداف الاستراتيجية للحرب، وستستمر "حماس" في إدارة غزة والحفاظ على قسم كبير من قدراتها العسكرية، ويعني ذلك أن الحرب والدمار والقتل لم تحقق لغاية الآن أي ضرر جدّي على قدرات "حماس" العسكرية.

القضاء على "حماس" لا يعني بالنسبة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية فقط تحقيق انتصار عسكري وإثبات قدرات الجيش الإسرائيلي، بعدما كانت العديد من علامات الاستفهام قد طرحت عن قدراته لحسم المعركة، خصوصاً البرية، بل يعني أيضاً الانتقام لأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وترميم هيبة الجيش أمام المجتمع الإسرائيلي، وإعادة بناء قوة الردع. وفقاً للمؤسسة العسكرية، فإن أي توقف الآن يعني ضرراً كبيراً لهذه الأهداف ولمكانة الجيش، وبذلك خطر وجودي على دولة إسرائيل.

وقد أوضح هذا التصور البروفسور إيال زيسر، المختص في الشؤون العربية، في مقال نشر أمس في صحيفة "يسرائيل هيوم"، إذ قال إن "هناك من يرى أن الحرب في غزة هي "حرب الاستقلال والنهضة" لجيلنا، لأنها قد تحدد مصيرنا في المنطقة على مدى السنوات الـ75 المقبلة. ولهذا السبب بالتحديد، يمنع التوقف عن الهجوم قبل تحقيق الحسم وتحقيق أهداف الحرب. فقط هذا سيضمن لنا الأمن ويعيد إسرائيل إلى طريق الملك الذي كانت عليه مساء السابع من أكتوبر".

موقف المؤسسة العسكرية، يوضح أن إسرائيل تتعامل مع الحرب على غزة كحرب ذات أبعاد استراتيجية، وسيكون لها تأثير على مستقبل إسرائيل ومكانتها. لذلك يجب أن يكوم الحسم واضحاً وأن تتحقق أهداف القضاء على قدرات "حماس" العسكرية والإدارية. إلا أن هذا الموقف لا يعطي وزناً كافياً لعوامل أخرى من شأنها أن تشكل ضغطاً باتجاه إنهاء الحرب على غزة، وربما تطغى على اعتبارات المؤسسة العسكرية. من هذه العوامل، العوامل الاقتصادية، وعدم تحقيق إنجازات عسكرية استراتيجية لغاية الآن، والضغط الدولي، وضغط عائلات الأسرى والمخطوفين، والتخوف من اندلاع مواجهات في الضفة الغربية، والقلق من توسع جبهة الشمال مع "حزب الله".

العامل الاقتصادي

مع استمرار الحرب على غزة، تتزايد الخسائر في الاقتصاد الإسرائيلي ويرتفع ثمن الحرب. ومن المتوقع أن يطاول تأثير الحرب الحالية كافة محاور الاقتصاد الإسرائيلي. من ذلك، النمو الاقتصادي، وتراجع الناتج المحلي، وانخفاض الدخل، وارتفاع البطالة، وتقليص الاستثمارات الخارجية، والعجز الحكومي، ومكانة إسرائيل الاقتصادية العالمية. تقديرات وزارة المالية لغاية الآن أن الحرب ستكلف قرابة 250 مليار شيكل (أي قرابة 60 مليار دولار)، وستؤدي الى تراجع الناتج المحلي في العام الحالي من 3.5 في المائة إلى 1.5 في المائة، وتراجع النمو في العام 2024 إلى 0.5 في المائة فقط. وزارة المالية نشرت تقديراً يوم الخميس الماضي حول آثار الحرب أوضحت فيه أن الآثار السلبية ستكون أكثر حدة من تقديرات بنك إسرائيل، ومن تقديرات سابقة للوزارة ذاتها. لذلك من المتوقع أن يشكل العامل الاقتصادي ضغطاً باتجاه تقصير أمد الحرب.

الضغط الدولي

تخشى الحكومة الإسرائيلية أن يؤدي وقف إطلاق النار إلى انتشار صور الدمار الهائل في غزة في شبكات الإعلام العالمية، وأن يكتشف العالم فظاعة المشهد وحجم القتل والدمار، وأن يؤدي ذلك إلى زيادة الضغوط الدولية على إسرائيل. ولا يقل ذلك أهمية عند إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي بدأ يستشعر تراجع مكانته في استطلاعات الرأي العام بسبب دعمه المطلق لإسرائيل، خصوصاً لدى داعمي الحزب الديمقراطي من فئة الشباب. مثال لهذا الضغط والتحول، كان في موقف رئيسي الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز والبلجيكي ألكسندر دي كرو خلال المؤتمر الصحافي الذي عقداه يوم الجمعة الماضي من أمام معبر رفح، وانتقدا فيه الحرب على غزة وطالبا بوقف إطلاق النار، وحملا إسرائيل مسؤولية قتل المدنيين، وبعدها انتقاد رئيس الوزراء الأيرلندي ليو فارادكار إسرائيل. ناهيك عن استمرار التظاهرات الرافضة للحرب الإسرائيلية في العواصم الأوروبية الصديقة لإسرائيل، مثل تظاهرات لندن وباريس وبرلين.

ستبقى الغلبة في المدى القريب للاعتبارات العسكرية

إسرائيل لا تستطيع أن تستمر بتجاهل الرأي العام الدولي، ولا يمكنها الاستمرار باتهام كل من ينتقد الحرب بأنه داعم لحركة "حماس" وأنه معاد للسامية. تراكم الاحتجاج الشعبي الدولي ومواقف الحكومات الأوروبية والضغط على الرئيس الأميركي، لا بد أن تترجم في مواقف أكثر حدة تجاه الحكومة الإسرائيلية وفي الضغط باتجاه وقف الحرب.

القلق من توسع الجبهات

على الرغم من شدة الضربات التي وجهتها آلة الحرب الإسرائيلية على غزة لغاية الآن، يرى العديد من المحللين الإسرائيليين أن حركة "حماس" لم تنكسر وأن قدراتها العسكرية قائمة رغم الضرر. ما يعني أن استمرار المعارك في حال انتهى وقف النار لن يكون سهلاً، بل إن وقف إطلاق النار الحالي سيمكَّن حركة "حماس" من إعادة تنظيم صفوفها الدفاعية والهجومية، وأن جبهة غزة ستكون مشتعلة.
القلق العسكري الإسرائيلي لا يقتصر على جبهة غزة، إذ تحذر الجهات الأمنية من إمكانية تفجر الأوضاع في الضفة الغربية، وعدم اقتصارها على اقتحامات يومية لقوات الجيش الإسرائيلي للمدن والمخيمات الفلسطينية في الضفة، بل أن تتحول إلى مواجهات واسعة يومية تطلب تخصيص عدد أكبر من القوات.

كما تخشى إسرائيل توسع وتعميق جبهة الشمال أمام "حزب الله". فقد شاهدنا في الأيام الأخيرة قبل وقف النار تصعيداً ميدانياً جدياً في جبهة الشمال. إسرائيل عمقت ضرباتها الجوية واستهدافها لقوات "حزب الله"، وفي المقابل كانت ردود قاسية من قبل "حزب الله". توسع الجبهة الشمالية، حتى ولو لم تصل إلى مرحلة الحرب، يعني استمرار إجلاء سكان البلدات الحدودية، ويعني استنزافاً يومياً للقدرات العسكرية، وعدم إمكانية تسريح قوات من الاحتياط، ويعني خشية دائمة من فقدان السيطرة وتوسع استهداف البلدات الإسرائيلية في العمق. كافة التقديرات الاسرائيلية تشير إلى أن اندلاع حرب واسعة مع "حزب الله" يعني تحول بلدات المركز الإسرائيلي إلى خط مواجهة، وهذا يعني تغييراً شاملاً لقواعد اللعبة.

إسرائيل تدعي لغاية الآن أنها غير معنية بتوسع المواجهات في الضفة، لكنها تقوم يومياً بقتل العشرات من الفلسطينيين هناك. وتصرح بأنها غير معنية بفتح جبهة موازية في الشمال، لكنها بالتوازي توضح أنه لا مفر من مواجهة "حزب الله"، ولو بعد انتهاء الحرب في غزة. ما يجعل معادلة التوازن صعبة في الضفة الغربية وفي الشمال، وأي تعميق للحرب في غزة قد يؤدي إلى توسع فتح هذه الجبهات.

القلق من تدهور الأوضاع في الضفة الغربية وفي جبهة الشمال قد يشكلان عوامل ردع وضبط باتجاه وقف الحرب في غزة. صور ومشاهد عودة الأسرى والمخطوفين المدنيين إلى عائلاتهم في إسرائيل، قد تدفع باتجاه تغير نفسية المجتمع الإسرائيلي وحالة الإجماع حول استمرار الحرب، وتعزز مطالبة العائلات بالإفراج عن الأسرى والمخطوفين. هذا بالتوازي مع تعثر تحقيق نتائج استراتيجية في ميدان المعارك في غزة، والقلق من توسع الجبهات، وتزايد الخسائر والأثمان الاقتصادية، وتصاعد الضغط في الحلبة الدولية.

كل هذه العوامل قد تشكل مجتمعةً ضغطاً معاكساً لموقف المؤسسة العسكرية ووزير الأمن وغالبية وزراء مجلس الحرب، الذين يتعاملون مع الحرب الحالية كحرب وجودية وحرب على مكانة ومستقبل دولة إسرائيل. رغم ذلك، يمكن التكهن بأنه في المدى القريب ستستمر الغلبة للاعتبارات الأمنية والعسكرية في اتخاذ القرار الإسرائيلي، وسيكون التوجه لاستمرار الحرب بعد انتهاء الهدنة، بغية البحث عن إنجاز عسكري جدي. لكن الحكومة الإسرائيلية لا تستطيع تجاهل تأثير بقية المحاور في المدى المتوسط، وستزداد عوامل الضغط باتجاه وقف الحرب، حتى دون تحقيق أهدافها الاستراتيجية. وقف الحرب دون تحقيق أهدافها الرئيسية يعني إنتاج واقع سياسي وأمني جديد في كافة المحاور، لا يمكن تكهن تداعياته الآن.

تقارير دولية
التحديثات الحية

المساهمون