حرب السيادة في باب العامود: دفاع مقدسي عن الوجود

22 أكتوبر 2021
ارتفعت وتيرة اعتداءات الاحتلال في الفترة الأخيرة (مصطفى الخروف/الأناضول)
+ الخط -

عادت منطقة باب العامود في مدينة القدس المحتلة، بساحاتها ومدرجاتها، إلى واجهة الأحداث، إذ تشهد منذ حوالي الأسبوعين، اشتباكات بين فتيان وشبان فلسطينيين من جهة، وبين شرطة وجيش الاحتلال ومجموعات من المستوطنين يجري استجلابها من "محني يهودا" والعديد من المستوطنات، من جهة أخرى، ما يعيد لذاكرة المقدسيين مواجهات سابقة أو ما باتوا يسمونها حرب سيادة على المنطقة كانوا خاضوها في شهر رمضان الماضي (بين إبريل/نيسان ومايو/أيار الماضيين)، وأرغموا خلالها قوات الاحتلال في حينه على إزالة حواجز حديدية كانت وضعتها في قلب الساحة لمنع الشبان من التواجد فيها.

ويرى المقدسيون أن ما شهدته "ساحة الشهداء" في باب العامود على مدى الأيام الماضية، بات يشكّل مرحلة جديدة من استهداف الشباب المقدسيين الذين ضيّق الاحتلال مساحة حريتهم ومكان وجودهم من خلال عمليات التنكيل اليومية التي تقترفها قوات الاحتلال بحقهم وإخلائهم بالقوة من هناك مستخدمة الكلاب البوليسية والهراوات وإطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الصوت والغاز، عدا سحل النساء واستهداف الطواقم الطبية والإعلامية على وجه الخصوص.

ويُظهر الفتية والشبان المقدسيون مقاومة عنيدة وجريئة وإسقاطاً لما يسميه الاحتلال سياسة الردع ضد هذا الجيل من المقدسيين، من خلال ما ظهر من تصدٍّ لجنود الاحتلال ومستوطنيه ومقاومة الاعتقال بشدة، والاشتباك بالأيدي مع الجنود الذين يردون باستخدام مفرط للعنف وإطلاق الرصاص الحي والمطاطي وسحل الفتيات من دون رادع.

مرحلة جديدة من استهداف الشباب المقدسيين في ساحة الشهداء عبر التضييق على مساحة حريتهم ومكان وجودهم

يقول إبراهيم البكري، وهو أحد الشبان الذين تعرضوا للضرب بالهراوات من قبل الجنود أخيراً، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه كان برفقة عدد من أصدقائه يجلسون على مدرجات باب العامود حين باغتتهم مجموعة من جنود الاحتلال بكلابها البوليسية واعتدوا عليهم بالضرب على أرجلهم على مرأى من مجموعة من المستوطنين، وحين توجّه إلى ضابط آخر في شرطة الاحتلال يتحدث العربية وشكى له قيام أحد الجنود بضربه على رجله، قال له الضابط: "أضربك على رجلك الثانية"، وما إن أكمل حديثه حتى انهال عليه بالهراوات على رجله الثانية.

المواطنة لمياء سالم، والدة الصحافية نسرين سالم، روت لـ"العربي الجديد"، ما تعرضت له هي وابنتها وشقيقتها ساجدة من اعتداء من قبل مجندات الاحتلال وجنوده قبل أيام خلال تغطية نسرين مواجهات في باب العامود. تقول سالم إن مجندتين اعتدتا على ابنتها وقامتا بسحلها على مدرج باب العامود على الرغم من أنها كانت تقوم بعملها كصحافية، وتم اقتيادها بعنف ويداها خلف ظهرها، مضيفة "قلت لهم إنها صحافية، فلماذا تعتدون عليها، لكنهم اعتدوا عليّ أيضاً، وعلى ابنتي الثانية ساجدة، كما اعتدوا على صحافيين آخرين منهم المصور أحمد أبو صبيح، حيث نقلا إلى مركز شرطة صلاح الدين، وفي ساعات المساء تم نقل نسرين إلى مركز لحرس الحدود على سفوح جبل المكبر".

نسرين التي تعرضت للاعتقال والضرب مع والدتها وشقيقتها، أفرج عنها الثلاثاء الماضي، بشرط الإبعاد عن منطقة باب العامود مسافة 150 متراً لمدة 15 يوماً، وكما تقول والدة نسرين: "ما بدهم حدا يكون في باب العامود، المستوطنين رايحين جايين وبستفزوا الشباب وما حدا بحكيلهم وين رايحين، ولا بوقفهم عند حدهم".

ويقول شبان مقدسيون إن "جنود الاحتلال هم من يأتون بالمستوطنين إلى ساحة باب العامود ليستفزونا، ونحن بدورنا لا نسكت، ولن نسكت على استفزازاتهم، وحين نرد عليهم بردعهم يتدخل الجنود لقمعنا وضربنا وإخلائنا بالقوة من المكان"، وهذا ما يؤكده لـ"العربي الجديد" الفتى محمد اشتيّ وهو يروي ما تعرض له وثلاثة من رفاقه قبل يومين في باب العامود، وهو الاعتداء الثالث الذي يتعرضون له في غضون أسبوعين. ويضيف اشتيّ: "ليس لنا مكان آخر نذهب إليه، هل هناك قانون يمنع أي فرد من الجلوس في ساحة عامة؟ هم لا يريدوننا أن نكون هنا، لكن لا مكان آخر نذهب إليه".

زج الاحتلال بالمستوطنين كطرف رئيس في هذه الحرب التي تستهدف تحقيق الغلبة على الفلسطينيين

هذه الأحداث المتصاعدة منذ حوالي الأسبوعين في ساحة باب العامود، يصفها الكاتب والمحلل السياسي راسم عبيدات، في حديث مع "العربي الجديد"، بأنها حرب سيادة يبدو أنها لن تتوقف إن لم تتصاعد في الأيام المقبلة. ويؤكد عبيدات أن الاحتلال زج بالمستوطنين المستجلبين كطرف رئيس في هذه الحرب التي تستهدف تحقيق الغلبة على جيل فلسطيني يتجدد شبابه كل يوم، ويرى في باب العامود وساحتها وطنه الذي يدافع عن وجوده فيه. ويشير إلى أن الواقع يوضح أن ما يقوم به الاحتلال يندرج في إطار سعي متواصل من قبل حكومة اليمين والتطرف الديني والتوراتي والتلمودي لتهويد ساحة باب العامود، بعد أن فشل هذا المخطط في إبريل/ نيسان، ومايو/ أيار الماضيين، بعد هبّات القدس الثلاث التي فجّرت انتفاضة شعبية عارمة امتدت على طول وعرض جغرافيا فلسطين التاريخية، واستدعت لأول مرة تدخلاً عسكرياً من فصائل المقاومة في قطاع غزة دفاعاً ونصرة للقدس والأقصى.

من جهته، يصف المحامي مدحت ديبة الاعتداءات اليومية من قوات الاحتلال بحق الشبان في باب العامود بأنها محاولة لفرض السيادة الإسرائيلية بالقوة على المكان. ويضيف في تصريح لـ"العربي الجديد": "مشهد وجود الشباب المقدسي بصورة دائمة في القدس وتحديداً في باب العامود لا يروق للاحتلال أبداً باعتباره مظهراً من مظاهر السيادة، ولذا هم يقاومونه بشدة".
ووفق ديبة، فإن "الاحتلال يتفنن في استخدام معظم أساليب القمع بما فيها استخدام المياه العادمة، علماً بأن المركبات المستخدمة يفترض أن تستخدم مياهاً ملونة وليست عادمة، وهو أمر يحدث فقط في التظاهرات والاحتجاجات اليهودية، لكن في الاحتجاجات الفلسطينية يستخدمون المياه العادمة والقذرة، وتخرق شرطة الاحتلال أنظمة استخدام هذه المركبات والتي تحظر رشها على رؤوس المحتجين من مسافة تقل عن 25 متراً، كما تمنع رشها في الساحات المفتوحة وعلى المحال التجارية، ولهذا نحن نعكف على تقديم التماس يمنع شرطة الاحتلال من الاستخدام الحالي للمركبات". ويضيف ديبة: "هم يريدون إفراغ منطقة باب العامود، شريان المرور الرئيس للبلدة القديمة، من المقدسيين خصوصاً الشباب، وإفراغ البلدة القديمة من تجارها وضرب القوة الشرائية فيها، لدفع التجار إلى الانتقال منها للضواحي البعيدة مثل مخيم شعفاط، وكفر عقب، وضاحية السلام".

ويرى خبراء أن ما يحدث في باب العامود راهناً وما حدث خلال شهر رمضان الماضي، هو صراع على الحيز والمكان بين أصحاب المكان الأصليين والاحتلال الذي يحاول مصادرة حق الوجود الفلسطيني في هذه المنطقة في سياق حربه على جميع مظاهر السيادة، ولهذا يقاوم الاحتلال كل نشاط ويمنع أي فعالية اجتماعية أو جماهيرية من دون تصريح منه، ويقوم بقمعها لدواعٍ سياسية وهي أنها تتم برعاية وتمويل وإشراف من السلطة الفلسطينية.

وفي هذا السياق، يرى أستاذ علم الاجتماع وعضو المجلس التشريعي الفلسطيني السابق، برنارد سابيلا، في حديث مع "العربي الجديد"، أن النتائج المترتبة على اتفاقية أوسلو لم تستطع تغييب دور الشباب المقدسي، لكنها ساهمت في وضع أسئلة الهوية والانتماء في محلّ الصدارة. ويقول سابيلا "إنّ تغييب الدور الفلسطيني الرسمي، والمعيقات والإجراءات التي اتّبعتها سلطات الاحتلال للجم وتقنين الحضور الفلسطيني الرسمي، أوجدت فراغاً سياسياً شعر به المقدسيون عامة وليس فئة الشباب فقط، وصاحب هذا الفراغ ارتباط ثلث القوة العاملة المقدسيّة وأغلبها من الشباب، بالاقتصاد الإسرائيلي ومتطلباته التشغيلية خصوصاً في القدس الغربية، وحلّل البعض هذا الارتباط التشغيلي على أنه مؤشر لخلخلة الهوية الفلسطينية عند الشباب وإضعاف انتمائهم الوطني". ويضيف "المفاجأة كانت بأن هؤلاء الشباب كانوا الأوائل في الدفاع عن الحرم القدسي (المسجد الأقصى)، وعن طابع المدينة الفلسطيني في كل الأحداث التي تحدت الفلسطينيين وطابع مدينتهم من هبّة النفق وهبّة البوابات، إلى تلك التي صاحبت زيارة رئيس وزراء إسرائيل الأسبق أرئيل شارون الاستفزازية وغيرها من التحديات حتى رمضان هذا العام".

ويردف سابيلا: "لم يتوانَ الشباب المقدسي في قبول التحدي والتصدي لما يرونه بشكل عفوي تحديا رئيسيا لهويتهم ومكوناتها، وبالتالي دور الشباب موجود حتى ولو مرّ بأوقات هادئة نسبياً ينشغل بها هذا الشباب بأمور وملهّيات مثل باقي الشباب في العالم، ودائماً السلطات تحاول أن تجد حيّزاً زمانياً تشعر به بالراحة النفسية، ولكن هل هذا سيمنع أو سيوقف هبّات جديدة؟ أنا أشك بذلك، لأنّ المشكلة بحاجة إلى حل جذري"، متابعاً "تبقى المشكلة سياسية تتطلب حلاً سياسياً، ولكن إذا أراد العسكر أن يحتوي الشباب بطريقة قمعية فستبقى المشكلة قائمة، في حين أنّ هناك غياباً للمؤسسات والأطر التي تحتوي الشباب، وفي وضع القدس لن يكون هناك أي حل طالما الاحتلال مستمر".

المساهمون