قبل أقل من خمسة أشهر على الانتخابات البرلمانية في العراق المقررة في 10 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، انطلقت الحملات الانتخابية لمختلف الكتل والقوى السياسية مبكراً، في ظاهرة هي الأولى من نوعها في البلاد منذ عام 2003، كونه في العادة تنطلق الحملات الانتخابية قبل شهرين أو أقل من موعد فتح صناديق الاقتراع. وباستثناء القوى المدنية العراقية، التي ما تزال مترددة لغاية الآن بشأن المشاركة في الانتخابات بسبب عمليات الاغتيال والتهديدات التي طاولت الناشطين المدنيين وعمليات التضييق والتخوين التي تمارسها قوى وأحزاب وفصائل مسلحة ضدها، فقد انخرطت القوى السياسية النافذة في البلاد، بحملات الترويج لها بطرق مختلفة وأساليب متنوعة. في المقابل، لم تقم مفوضية الانتخابات بواجباتها تجاه هذا الأمر، خصوصاً أن قانونها يوجب معاقبة حملات الترويج قبل انطلاقها، مع فرض رقابة على استخدام المال العام أو مقدرات الدولة في الحملات الانتخابية.
لم تتحرّك مفوضية الانتخابات لمنع الحملات الانتخابية
وعلى مدار الأسبوعين الماضيين، حفلت منصات التواصل الاجتماعي ومكاتب الأحزاب، بصور عمليات فرش الطرق بالأسفلت ومادة "السبيس" (الرمل والحصى المخلوط)، أو نصب محولات كهرباء جديدة في بلدات ومناطق عدة. كما رُفعت حواجز تفتيش أمنية كانت تعيق نشاط المواطنين وتؤخرهم عن أعمالهم، وكذلك انتشرت صور سياسيين يشاركون في جلسات واجتماعات عشائرية، ويزورون مستشفيات ومخيمات نازحين، فضلاً عن إطلاق الوعود. ولا يُخفى الخطاب الطائفي أو القومي، كما في كركوك ومناطق مختلطة شمالي العراق، من تلك الحملات بهدف جذب جمهور المؤيدين وهو أيضاً ما يعتبر مخالفة قانونية، لكن لغاية الآن لم تتحرك مفوضية الانتخابات بشأن ذلك. إلى جانب ذلك، يتسابق المرشحون على نشر صورهم في الشوارع وعلى الأرصفة، وبلغ بعضها التجاوز على الممتلكات العامة والأبنية الحكومية. وتكشف مصادر محلية من محافظات عدة أن بعض المرشحين استغلوا أسيجة المدارس والمستشفيات وبالقرب من نقاط التفتيش، إضافة إلى اللوحات المخصصة للافتات الموتى بالقرب من بعض الجوامع.
في السياق، تنوّه المتحدثة باسم مفوضية الانتخابات جمانة غلاي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن "مجلس المفوضين لم يُصادق لغاية الآن على المرشحين، كما لم تنطلق مرحلة الحملة الدعائية الخاصة بهم لنحاسبهم. وما زالت أسماؤهم قيد التدقيق والتحقق ولم تكتمل بعد، بالتالي فإن توزيع الهدايا وحملات الصيانة للطرق التي يقوم بها بعض السياسيين، عادية، كونهم لم يحصلوا إلى حد الآن على التأكيد من مفوضية الانتخابات على مشاركتهم في الانتخابات. كما أنهم لم يحصلوا على أرقام قوائهم أو تسلسلهم في القوائم الانتخابية". وتشير إلى أن "غالبية السياسيين الذين بادروا بهذه الأفعال، يبررون أفعالهم بأنها جزء من مساعدتهم للمواطنين".
من جهته، يلفت النائب السابق رزاق الحيدري، إلى أن "بعض المرشحين للانتخابات البرلمانية لا يعرفون أصلاً مفهوم الدعاية الانتخابية، وهم يقومون بأفعال وحركات إعلامية لا علاقة لها بأبجديات السياسة. وقد لاحظنا خلال الأيام الماضية تسرب مقاطع فيديو أشارت بوضوح لتقديم سياسية عراقية وعوداً بتعيين شبان في مؤسسات الدولة، مع العلم أن وظيفة البرلماني ليست تعيين المواطنين، بل هي تشريع قوانين تخدم العراقيين". ويوضح في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "هناك سياسيين يلجؤون إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يقومون بتحويل عقود بعض الأراضي الزراعية إلى سكنية، وكأنهم يعملون في دوائر الدولة المتخصصة بالعقار. وتجري هذه الأفعال على مرأى ومسمع الأحزاب والأجهزة الرقابية والقضاء العراقي، لكن الأحزاب ذاتها تسيطر على هذه الجهات، وبالتالي لا تُفرض أي قرارات عقابية على هذا الأمر".
بدوره، يرى النائب علي البديري، أن "هناك طرقاً مشروعة في الدعاية الانتخابية، ومنها استقبال وفود من أهالي المناطق العراقية ومن وجهاء هذه المناطق، والحديث معهم عن حاجاتهم. لكن في المقابل، هناك أفعال باتت مفضوحة ومكشوفة بالنسبة للعراقيين، ومنها الوعود بالتوظيف أو تعبيد الطرق المهملة منذ سنوات أو وعود ببناء مدرسة أو مركز صحي". ويؤكد في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "من واجب مفوضية الانتخابات أن تراقب هذه التحركات والأفعال، وتمنع تحويل الصوت الانتخابي إلى سلعة تباع وتشترى بالمالي السياسي الفاسد، وتمنع أي مرشح يمارس عملية الدعاية الانتخابية بصورة تخرق القوانين عن المشاركة في الانتخابات".
أما الناشط السياسي، عضو حركة "نازل آخذ حقي الديمقراطية" عمار النعيمي، فيعتبر في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الكيانات السياسية الجديدة التي أفرزتها تظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 2019، لا تملك المال السياسي كما الحال مع الأحزاب الدينية التي تحكم العراق منذ عام 2005 ولغاية الآن. وهي لا تريد خداع العراقيين بوعود معروف أنها لن تتحقق". ويضيف: "على الرغم من ميل الكيانات السياسية الجديدة إلى عدم المشاركة في الانتخابات، بسبب غياب البيئة الانتخابية الآمنة واستمرار قتل الناشطين، إلا أن دعايتها الانتخابية ستكون عبر التثقيف السياسي وحمل الملفات التي يطالب بها العراقيون إلى مبنى البرلمان، من أجل فتحها وتشريع القوانين التي تخدم العراقيين". ويلفت إلى أن "معظم الأحزاب التقليدية لا تملك أي مشاريع وطنية لعرضها على العراقيين وتطبيقها بعد الانتخابات، وهي تتصارع فيما بينها وتتنافس في سبيل نيل المناصب لخدمة أعضائها والجهات الدولية التي تساندها".
بعض المرشحين للانتخابات البرلمانية لا يعرفون أصلاً مفهوم الدعاية الانتخابية
بدوره، يرى الباحث أحمد الشريفي، أن "الأحزاب التقليدية المسيطرة على مقاليد الحكم والمناصب المهمة في الدولة، لديها ما يكفي من المال السياسي لتقديمه للعراقيين كهدايا ومنح في سبيل الحصول على أصواتهم في كل انتخابات. وهي تخصص مبالغ تحصل عليها من الصفقات والمشاريع العمرانية والاستثمارات من الحكومة. وعادة ما تتعرض إلى تلكؤ، عبر هيئاتها الاقتصادية والسياسية، لصرفها فيما بعد على الدعاية الانتخابية وعمليات تزوير النتائج وشراء الأصوات". ويضيف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الأحزاب لا تملك غير هذه الطريقة في الحصول على نتائج مرضية بالانتخابات، كونها لا تملك أي مناهج سياسية أو آلية حكيمة لإقناع الناخبين بما ستقدمها بعد فوزها".
مع ذلك، تبدو الانتخابات المقبلة التي طالب بها العراقيون وتحديداً المشاركين باحتجاجات أكتوبر التي راح ضحيتها نحو 800 قتيل، لن تحظى بمشاركة شعبية كبيرة، خصوصاً بعد إعلان أغلب الكيانات السياسية التي يقودها المحتجون أنفسهم، رفضهم المشاركة في الانتخابات، على خلفية اغتيال الناشط العراقي إيهاب الوزني في مدينة كربلاء. وتزداد مشاعر النقمة لدى أغلبية العراقيين من الأحزاب المسيطرة على المشهد الانتخابي، وبدء الحملة الدعائية التي لم تختلف عن الانتخابات الماضية التي أجريت في البلاد خلال السنوات التي أعقبت الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003.