تنكيت أدبي في زمن كورونا

05 ابريل 2020
+ الخط -
أعادنا الزمن الكوروني إلى أيام التنكيت الأدبي الذي سمّيناه، في ما بعد، التنكيت البايخ. سبب نعتنا إياه بالبياخة أننا، في أيام الصبا، كنا نخلط بين مفهوم الأدب الساخر والتنكيت، معتقدين أنهما شيء واحد، حتى أن أحد زملائنا قرأ علينا قصةً وأكد لنا أنها ساخرة؛ بدليل أنه قرأها لزوجته ففرطت من الضحك، ولولا أنه أسندها بيديه لسقطت على الأرض مغشياً عليها! وبالتحرّي عن الأسباب الحقيقية لضحك الزوجة، عرفنا أن الكاتب كان موظفاً، يقبض في أثناء عمله بعض الرشاوى من الإخوة المواطنين، وفي ذلك اليوم الأغرّ جاءته "رزقة" محرزة، فاشترى لزوجته إسورة ذهبية، وقبل أن يطلب منها أن تفتح عينيها المغمضتين لترى ما هي الهدية قرأ لها القصة، فضحكت.. وأما نحن فوجدناها بايخة.
في تلك الأيام، كنا نسخر، بل ننكّت على أي شيء يأتي في طريقنا، مستخدمين أسلوب اللعب على الألفاظ، نبراسُنا في هذه البياخة المضحكة الممثل عبد الله النشواتي (أبو شاكر)، عندما يلتقي زوجته ذات السمع الثقيل، يحدّثها فتفهم كلامه بالمقلوب، أو حينما يقف مع الممثل محمود جبر في مشهدٍ مسرحي، ويسأله إن كان يرمي عليه وَسَخ مَسَخ، وقشر بطيخ مَطّيخ، ثم يعلمه أنه يشمّ رائحة احتراق الطبخة المَبْخة، فيردّ محمود جبر أن الطبخة المبخة لم يبق منها الدومري المومري.. وفي مسرحية أخرى، يتحدث محمود جبر إلى امرأة بدينة اسمها جملو. ويقول لها: نعمو؟ عملتي العمليّو؟
وكنا، كذلك، نضحك على الأسماء، وأذكر أن اسمي، الذي لا يخلو من الغرابة، أثار إشكالاتٍ مضحكةً في الوسط الأدبي، إذ كان يتساءل شخص قرأ لي مقالة أو قصة: مين خطيب بدلة؟ فيرد عليه الآخر: خطيب مين؟! ويضحكان، كهي كهي كهي، بعمق، وأحياناً يسترسلان، فينوّه المنكت إلى أن هناك فتاة جميلة اسمها "بدلة"، خطبها هذا الكاتب، فصار اسمه خطيب "بدلة" على طريقة الرجل الذي جن بحب ليلى، فسمي "مجنون ليلى".
مع ظهور مرض كورونا، وفرض الحجْر الصحي على جميع البشر، أصبح لدينا المليارات من ساعات الفراغ التي يمتلكها أناسٌ كانوا، قبل كورونا، لا يمتلكون وقتاً يحكّون فيه رؤوسهم. وبما أن هذا الوضع شاذ، والناس مسجونون هذه المرّة من دون اعتقال من الأمن الجوي، أو حكم من محكمة الإرهاب التي ورثت محكمة أمن الدولة، مثلما ورث بشار النظامَ الإرهابي عن والده، فقد لجأوا إلى التنكيت.. والموبايل، الذي يحار إخوتنا السوريون الذين لم يهاجروا كيف يشحنونه، لأن الكهرباء تنقطع عندهم طيلة اليوم (بفضل القيادة الحكيمة والعداء للإمبريالية)، ما عدنا نتوقف عن شحنه، إذ تأتينا في كل دقيقةٍ نكتة عن كورونا وعن الحجْر الصحي، أو فيديو، والكل يعتقد، مثل صاحبنا الذي قرأ القصة لزوجته مع إسورة ذهبية، أن دمه خفيف، وأننا سنفرط من الضحك، مثل تلك الزوجة المسكينة.
كان شعراء "المهجر" يتحدّثون عن الجري شرقاً وغرباً خلف الرزق، وأما شعراء "المَحجر" فيتحدث واحدُهم عن الجلوس الإجباري في البيت مثل قرقرة الدجاج، معدّداً الوجبات التي يلتهمها في اليوم، والجزرات التي يقرضها، والأرغفة التي يعلسها، إلى أن تفيض قريحته فيقول:
بين الفؤاد والحشا/ والخل ذاب مع النشا/ لا تأكل الخبز كله/ اترك رغيفاً للعشا..
ويحكي لنا كيف أن جنبه الأيسر يتعب من الاتكاء الطويل، فيغيّر وضعية جلوسه متكئاً على طرفه الأيمن.. وأما الناقد الأدبي المحجور بين المحجورين فينورنا بفكرةٍ باهرةٍ بالفعل، وهي أن الحطيئة حينما هجا الزبرقان بن بدر بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها/ واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لم يكن يقصد شيئاً آخر غير الحجْر الصحي! ولا يسعه إلا أن يقول له: أخي انحجر، وانقبر في بيتك، وملعون أبو المكارم التي سترحل لبغيتها معرّضاً نفسك للعدوى.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...