مظاهرة ضد كورونا

مظاهرة ضد كورونا

01 ابريل 2020
+ الخط -
لماذا خرجوا ليلًا يهتفون بسقوط فيروس كورونا، وكأنه أكبر قوَّة عاتية محسوسة على وجه الأرض؟ على الرَّغم من أنه عدوٌّ غامض، لا يُرى بالعين المجرَّدة في الحقيقة، ولماذا نادوا بنهايته، وطالبوا برحيله عن بلدهم؟ وخصوصا مدينتهم التي تتحدّى البحر العملاق؛ فتبلِّل قدميها بمائه، منذ القدم؟ ولكن أهلها خرجوا في ليلة مظلمة باردة، بهُتاف يصل إلى عَنان السماء ضد هذا العدو، وكأنهم لم يعرفوا، على مرّ التاريخ، سلاحا غيره، ومتاحفهم ملأى بما تبقّى من آثار الأسلحة التي استُخدمت لحماية القُطر كلِّه على مرّ التاريخ، فالإسكندرية كانت في العصر الروماني عاصمة القُطر المصري؟
الإجابة بسيطة، ومحزنة إلى درجة البكاء؛ أنّ الحال قد تبدّل، وأصبح الجبابرة فقراء، دكّهم الفقر، واستفحلت فيهم الحاجة، وضاقت بهم سبُل الحياة، وأصبحوا بالكاد يلتقطون أنفاسهم، لا قوت عيالهم، فيأتي اليوم كائنٌ لا يُرى بالعين المجرِّدة، يهدِّد وجودهم، وهم لا يملكون منه وقاية، يشاهدون من خلال القنوات التلفزيونية الدول المتقدِّمة، وهي تستخدم أحدث التقنيات ووسائل المكافحة؛ لمواجهة فيروس كورونا، ويعجزون، يرون ويسمعون عن دولٍ عظمى تمتلك أعلى الإمكانات، وتسخِّر كل الطاقات للعناية بالمرضى، ويتلفتون في الوقت نفسه حولهم، ويرون في المقابل ما اعتادوا رؤيته؛ من تداعي النظام الصحِّي في بلادهم، وعجزه عن علاج أبسط الأمراض التي انقرضت في العالم المتحضر.
أمام هذا الشعور بالانكشاف، تصاعدت فيهم روح الجماعة، فكأنها اندفاعة فطرية غير واعية للاحتماء بالتضامُن، بالتوحُّد؛ خرجوا يهلِّلون، ويصرخون ضدَّ الفيروس، وقلوبهم تئنُّ وجعًا، وأجوافهم تبتلع حسرة، وألمًا على ما ينتظرهم، لو انتشر الفيروس في بلادهم، ويحاولون إزاحة صورةٍ مَقيتةٍ عن فيروسٍ سيطاول الكبير والصغير منهم، فقرَّروا أن يصرخوا في وجه العالم الصامت المظلم، فهتفوا ما بين السُّخرية والجِدّ، والحقيقة أن السخرية كانت موجوعة، هتفوا ينادون برحيل الفيروس تارة، ويتضرّعون إلى الرب، ألا يُرسيه على شاطئ مدينتهم التي لم يتبقَّ من أمجادها إلا أطلال مدفونة في قاع البحر، تارة أخرى.
حال أهل الإسكندرية "الجدعان" هو حال معظم الشعوب التي تعاني الفقر، والتي لديها يقين أن الوباء لن يطاولها؛ لأن ما طاولها على مرّ الزمان يكفيها، ففي غزة مثلا، والتي صنِّفتها الأمم المتحدة، في اليوم العالمي للسعادة، سادس منطقة في العالم الأكثر بؤسًا، فالناس هناك يصرُّون على ممارسة حياتهم اليومية، على الرغم من التحذيرات. وفي ذلك هم منقسمون إلى قسم لا يبالي بالموت وقسم لديه يقين أن الرب لن يوصل الوباء إلى منطقة منكوبة في الأساس، بل لن يجد الوباء له مكانًا، حيث الفقر والجوع والبطالة والمرض وتلوُّث الماء والهواء.
في غزة، كما الإسكندرية، يعيش الناس حياتهم يومًا بيوم، ولذلك هم يسخرون من فيروس كورونا الذي يريد أن يحبسهم في منازلهم، ويرون أن الموت بالمرض أهون من الموت بالجوع، خصوصا أن بيوتهم ملأى بالصغار ذوي الأفواه المفتوحة، ويطلبون الحليب والطعام، على مدار الساعة.
يمزج الفقراء السخرية بالتحدِّي واللامبالاة، يخرجون إلى الشوارع؛ لكي يلتقوا بأمثالهم الذين سيشجّعونهم على البقاء في الشارع، فالهروب من البيوت المكتظة والأفواه الجائعة لا يكون إلا إلى الشارع، فلمَ يبقون في بيوتهم؟ هذا لسان حالهم. هل يبقون في البيت؛ لكي يظلوا أحياء وفقراء كالِحي الوجوه؛ بسبب سوء تغذيتهم؟
لدى الفقراء سخطٌ عميق على القوى العظمى التي رصدت اليوم نحو خمسة تريليونات دولار لإنعاش اقتصادها، والذي تزعزع بسبب وباء كورونا، فهذه القوى لم تفكِّر بإنقاذهم من الفقر مثلا، وانتشالهم من العشوائيات والبيوت المتهالكة والأسقف المتداعية. ولذلك لدى الفقراء تفسيرات غريبة لكلِّ ظاهرة، ولكل مُلِمِّة. لديهم تخيُّلات وخرافات، ويختارون أحيانًا ما يرونه غير مكلف، فمياه النيل المعالَجة بالكلور سوف تقتل الفيروس في أجوافهم، وهي في متناول اليد، ولدى العم محمد العطار على ناصية الشارع خلطة سحرية زهيدة الثمن، لن تجعل الفيروس يقترب منهم!
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.