مصر.. كأنها دولة

16 مارس 2020

سيارة غارقة في ضاحية القاهرة الجديدة (12/3/2020/فرانس برس)

+ الخط -
ضرب طقس سيئ مصر بقوة، وتدفّقت كميات ضخمة من الأمطار في طول البلاد وعرضها ما يزيد عن 14 ساعة. ولم تكن الدولة مستعدّة لهذا الموقف، ولا لأقل منه.. فقد تعرّضت من قبل إلى الأقل منه، وأخفقت في التعامل معه، ولم تستخلص دروسه. ففي العام الماضي، أغرقت مياه الأمطار طرقاً ومساحات شاسعة في مدن وتجمعات سكنية راقية، من أبرزها "القاهرة الجديدة" التي غرقت في "شبر مياه". وقال المتحدث باسم مجلس الوزراء، وقتئذ، إن تكلفة إقامة شبكة الصرف اللازمة تصل إلى 300 مليار جنيه مصري. وعملاً بفقه الأولويات، التعليم والصحة أجدر بتخصيص هذا المبلغ. لم يتوقع المسؤولون، ولو لحظة، أن الأزمة قد تتكرّر على نطاق أوسع، وأن الخسائر ستكون أكبر، وكلفتها أعلى بمراحل من إجراءات الوقاية.
قبل أكثر من عشر سنوات، تم إصلاح محور 26 يوليو (أحد الطرق الرئيسة في القاهرة) إثر تصدّع جزئي وتشققات سطحية. وطوال هذه السنوات، لم يصب المحور بأذى، إلا أول من أمس. أما الطرق التي لم يمر على إنشائها سوى عام أو اثنين، فبعضها تشقق وبعضها الآخر حدث فيه هبوط، وتحولت البقية إلى بحيرات مستطيلة تمتد عدة كيلومترات. أما شبكات الصرف التي أغرقت بعض المناطق العام الماضي، فقد تجاوز تدهورها حالة العجز عن استيعاب المياه وتصريفها، فصارت تُخرج ما فيها من مياه داخل المنازل. حدث ذلك حرفياً في مدينة الرحاب الراقية.
كل هذا في القاهرة، أي العاصمة.. أما القرى والنجوع في ريف مصر وصعيدها، فما حلّ بها محزن ويدمي القلب. بيوت جُرفت وأسر تشردت ومزروعات دُمرت وعقارب وحيات حملتها السيول إلى المناطق السكنية القريبة من الصحراء.
صحيح أن بطش الطبيعة كان عنيفاً، لكن الضعف والفساد أقوى وأشد أثراً. ضعف البنية والمباني وفساد وتقصير من بنوها. قيادات لا مبالية تسمح ببناء مدن بلا شروط سلامة وخدمات طوارئ. فساد مقاولين ينفذون وموظفين يشرفون ومهندسين يستلمون منشآت وطرقاً ومشروعات تفتقر إلى أبسط متطلبات السلامة الإنشائية. الأدهى والأمرّ أن وراء ذلك كله تعجلاً وسطحية ومسؤولين كل هَمّهم "اللقطة". لقطة أعلى برج في أفريقيا وأكبر مسجد أو كنيسة. يتفاخرون باختصار زمن أي مشروع إلى النصف، ولا يخطر على بالهم أن هذا سيعني مضاعفة التكلفة أو تراجع مستوى الجودة والكفاءة والمتانة إلى النصف.
أما عن المستقبل، فالسيناريو المنطقي، بعد انكشاف سوء حال الخدمات وهشاشة البنية التحتية، أن تجري الحكومة مراجعة شاملة وسريعة لمواصفات الأمن والسلامة لكل المشروعات الجارية، سواء مبان حكومية أو منشآت صناعية وتجارية، مع وقف فوري لكل تراخيص البناء في المدن الجديدة وإعادة النظر في الموافقات السابقة، ومراجعة مواصفات تصاميم الطرق وشبكات الصرف والمياه والكهرباء، وتعديل معايير الأمن والسلامة لتراعي أزمات الطقس التي لم تعد حالة استثنائية.
لا أظن أن أياً من تلك الخطوات ستتم، ما لم تصدر فيها تعليمات عليا، فقد صرنا في زمن لا أحد يفعل ولا يتحرّك بل ولا يفكر إلا بتوجيهات فوقية. وكل من في موقع مسؤولية، لا يقوم بما عليه، وإنما بما يُملى عليه. والسبب، ببساطة، أن المحاسبة لا تكون على النتيجة أو على أداء العمل كما يجب، وإنما على تنفيذ الأوامر حرفياً وفقط، من يصدر الأوامر لا يراجع النتائج، ولا يقيم الأداء الفعلي، وإنما يكتفي بـ"نعم" وترضيه "حاضر" ويفرح بـ"تمام سيادتك".
إنها حالة شديدة الرمزية، ومغرقة في الواقعية، تمتزج فيها السخرية بالمرارة. كل ملامحها "كأنها" حقيقة وهي ليست كذلك. كأن مسؤولاً يُفكر ويُخطط، وكأن مرؤوساً يوجّه ويشرف، وكأن الموظف أو العامل ينفذ. لتكون المحصلة "كأن" مشروعاً يقام وإنجازات تتحقق وخدمات تقدَّم. كأن شعباً يعيش وحكومة تعمل.. وكأنها دولة.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.