واشنطن ترضخ للقوة مُجدّداً

14 فبراير 2020
+ الخط -
راحت واشنطن، في 20 فبراير/ شباط 1970، مُكرهة، لتفاوض ثوار فيتنام في باريس. وفي فبراير/ شباط الجاري، رضخ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لإبرام اتفاق سلام مع حركة طالبان الأفغانية بعد مفاوضات ماراثونية في الدوحة. اكتفى ترامب بشرطٍ لا يتعدّى التزام "طالبان" بـ"خفض العنف"، ليس وقفه، لمدة اختبار نوايا تمتد سبعة أيام، وليس لأربع سنوات، مقابل توقيع الولايات المتحدة اتفاقا يتم بموجبه البدء تدريجياً بسحب القوات الأميركية من أفغانستان، والشروع في محادثات مباشرة مع "طالبان" والقادة الأفغان بشأن مستقبل بلادهم. يُشكل الاتفاق بين حركة طالبان، الإرهابية كما تصنفها واشنطن، والإدارة الأميركية منعطفاً مهمًّا في مسار الحرب الأميركية في أفغانستان التي بدأت قبل 17 سنة، وهي أطول حرب تخوضها الولايات المتحدة في تاريخها. فما نصّت عليه مسوّدة الاتفاق يعني ضمناً قبولاً أميركياً بتسليم حكم أفغانستان، ولو بعد حين، لحركة طالبان وسحب قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) من هناك خلال 18 شهراً. ويعني أيضاً انتصار حركة طالبان، بفرض شروطها التفاوضية بقوة نيرانٍ أودت، منذ بداية مهمة إعادة إعمار أفغانستان التي أعلن عنها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في إبريل/ نيسان 2002 بحياة قرابة أربعة آلاف جندي ومتعاقد أميركي، إلى جانب 1145 من جنود قوات حلف الناتو وقوات التحالف، كما كلفت الولايات المتحدة نحو تريليون و70 مليار دولار. وعلى الرغم من كل هذه التكلفة البشرية والمالية الكبيرة، فشلت الولايات المتحدة في القضاء على الحركة، وبدأت تجري مفاوضات مباشرة معها بهدف التوصل إلى تفاهم ما، بحيث يمكنها وضع حدّ لهذا النزيف المالي والبشري المستمر ومغادرة أفغانستان. 
تمثل مجريات عملية التفاوض الطويلة والشاقة بين واشنطن و"طالبان" هزيمة مدوّية لواشنطن، سياسياً وعسكرياً، فبعد تصنيف الحركة "إرهابية"، ووعيد القادة الأميركيين بسحقها منذ العام 2001، ها هم يُوفدون مبعوثاً خاصاً إلى الدوحة، ليجلس مع "إرهابيين"، بينهم معتقلون سابقون في غوانتنامو، أفرجت عنهم السلطات الأميركية بموجب صفقة تبادل مقابل أسير أميركي كان لدى الحركة، ويتفاوضون معهم بمستوى الندّ للند. وفي مقابل الإذعان الأميركي، عمدت "طالبان" إلى تصعيد هجماتها الميدانية خلال المفاوضات، لتحسين شروط التفاوض عبر الضغط بالنار. وبموازاة ذلك، لم يقبل مفاوضو "طالبان" برمي كل بيضهم في سلة واشنطن، إذ عمدوا إلى فتح قنوات تواصل موازية مع القوى الإقليمية والدولية المعنية بالتطورات السياسية والميدانية في أفغانستان، على غرار الصين وروسيا وإيران وباكستان، وغيرها، بهدف توجيه إشارات إلى واشنطن بأن للحركة القدرة على الوصول إلى تفاهماتٍ مع قوى إقليمية ودولية أخرى، مثل إيران. ولا يخفى على واشنطن توق طهران لمد نفوذها نحو كابول، لتخفيف الحصار عنها، وتعزيز أوراق نفوذها الإقليمي في مواجهة إدارة الرئيس ترامب.
يذكّر تكتيك التفاوض الذي نهجته حركة طالبان في الدوحة بالنهج التفاوضي لثوار فيتنام، عندما فاوض القائد لي دوك تو، ثعلب الدبلوماسية الأميركية، مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي آنذاك، هنري كيسنجر، على وقع ضربات ثوار "الفيتكونغ"، والتمسّك بكامل حقوق الشعب الفيتنامي في التحرّر والاستقلال. كما رضخت واشنطن اليوم لحركة طالبان، رضخت قبل ذلك في مفاوضات باريس (20 فبراير/ شباط 1970 حتى نهاية العام 1973) لمطالب المفاوض الفيتنامي. وفي الدوحة، كما في باريس، كانت المفاوضات الدبلوماسية تجري مع الطرف الأميركي في غرفٍ مغلقة، على وقع النيران المتبادلة في الميادين المفتوحة.
ربما يكون في مفاوضات الدوحة وباريس، وغيرهما من التجارب، دروس لأطراف فلسطينية وعربية لا تزال تدور منذ عقود في دوامة مفاوضاتٍ لا تستند فيها إلى أي أوراق ضغط. من المؤكد أن المفاوضات هي الطريق الإجباري إلى إنهاء أي صراع أو نزاع، لكن الأكيد، أيضاً، أن لا شعب تمكَّن من نيل استقلاله التام على طاولة مفاوضاتٍ لا تقف على ساقين من الحق والمقاومة، مسنودتيْن بما أمكن من الدعم الدولي.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.