عنيزة الألمانية والصرصور الهُمام

02 يناير 2020

(ريم يسوف)

+ الخط -
أشهر حكاية عن الصراصير هي "الصرصور والنملة". الصرصور فيها هو البطل الهُمام، والنملة هي البطلة الحسناء الماهرة السندريلا، والأسماء حسب الظهور. وأنا أهوى غناء الصراصير ومواويلها، ولا يعني النمل لي كثيراً، فهو بروليتاريا، وعسكر، له مخابرات، ويستعمل الأسلحة المحرّمة دولياً. النملة كائنٌ أخرس، وأوتي النبي سليمان، عليه السلام، نعمة سماعها ومعرفة لغتها، وتبسّم ضاحكاً من قولها. وقصة التحوّل لكافكا هي من عيون الأدب الغربي، ولكافكا مثابةٌ مثل مثابةِ الأنبياء في الغرب، وهي أفضل قصصه. وفيها يفيق غريغور سامسا ليجد نفسه قد تحوّل إلى صرصار، ولكن من غير موهبة الغناء! في التأويل السياسي، الصرصور هو السلطان، والنمل هو الشعب. وفي الأخبار أنَّ صرصوراً موالياً زار ألمانيا، وجمع من حفلةٍ عشرة ملايين دولار، جباها من النمل السوري النازح الذي قضى حياته وهو يعمل بالمنجل والمنكوش، هناك دغلٌ بجوار بيتي فيه صرصورٌ يغني، أقف بجواره طويلاً أسمع وأطرب وأتذكّر الوطن المعطاء، فالصراصير قليلة في ألمانيا.
يولي الغرب عنايةً زائدةً بالحيوانات، الأليفة والعنيفة، وتحظى الكلاب والهررة بالكعب المعلّى من الرعاية، وبعض أنواع الفئران مثل الفأر الدمشقي، فبعض الأسر تفضِّله لأنه صغير، يعيش في قفص، والغربيون يفضِّلون الكلب عموماً، فهو يأتي في الطبقة الأولى من الحيوانات المدلّلة لذكائه وحُسن طاعته، وتغلق الشوارع إذا سقطت هرّة من شرفة، وهي قليلا ما تسقط، لأنَّ الهرّة معروفةٌ بقدرتها على التوازن. وفي فيلم من أفلام الكاراتيه، اسمه زاتويشي، يتعلم بطل الفيلم حركة كاراتيه من الهرِّة، وزاتويشي مقاتلٌ مثل عنترة عند العرب، يقاتل بالسيف، ويفوز في القمار، وفي معاركه كلها، وهو أعمى! بحثت عن الفيلم كثيراً، فلم أجده على الشبكة العنكبوتية. وأفلام الغرب تعكس ثقافته، فحضارة الغرب حضارة صورة، وحضارة العرب حضارة كلمة، والحيوانات التي يعتني بها ويحرص عليها هي حيواناته، أمّا حيواناتنا فهو يدفع الأموال ليتسلّى بقتلها، وهو يدفع مثلاً ثلاثة آلاف دولار، لقتل أسدٍ في غابات كينيا. لقد انقرضت الأسود الحقيقية في بلادنا، ولم يبق فيها سوى النمل والصراصير، بفضل الغرب الديمقراطي.
انتهت المقدمة: بينما كنا، أنا وصديقي نوري، نقصد مدينة فرانكفورت في القطار، فضّل صاحبي الشاب الجلوس بجوار النافذة، وجلست على الكرسي المجاور للممرّ، أقرأ من كتاب ذمّ الهوى للإمام ابن الجوزي، وكانت الأقدار بالمرصاد، وجعلت صاحبي نوري يندَم، فقد جلست أمامي صبيةٌ ألمانية، كاعب، خماسيةُ القدِّ، قاعدة النهدِ، مثل البدر في تمامه. ثم وقعت الواقعة التي جعلت نوري يعضُّ أصابعه من الندم، عندما جفل القطار جفلةً شديدةً خضَّت ركّابه، وجعلت عنيزة الألمانية تنقذف في حضني كأنها سهم، ثم علمنا أنَّ راكباً، لله درّه، قد عثر على صرصور، فشدَّ المكابح وأوقف القطار، وهذه جنحةٌ يعاقب عليها القانون. جاء موظفو القطار، وعفوا عنه، عندما علموا سبب الجنحة، وأنزلوا الصرصور إلى الأرض، في مراسيم ملكية، وعادوا وتابعوا الرحلة سعداء مسرورين!
اعتذرت عنيزة الألمانية التي ليس في وجهها الصبيح خدشٌ واحد، مني، فشكرُتها، وأصاب مني السهمُ ما أصاب امرأ القيس، عندما ضربه سهما عنيزة في أعشارِ قَلبٍ مُقَتَّلِ. وقلت لعنيزة الألمانية إني أحبُّ الصراصير، لكني أحبُّ القمح أكثر أكثر، وأحبُّ عطر الورد، لكن أصابعها منه أعطر أعطر، وابتسمت، وقلت إنَّ الصرصور هو الذي جاء بي إلى ألمانيا. طلب مني نوري تبديل المقاعد، فاعتذرت، وعدت إلى قراءة كتاب ذمّ الهوى، ورائحة عبق الحسناء تسكرني، وطراوة أصابعها الخالدة تؤلمني. سألت نوري عن سبب طلبه تبديل المقاعد، فقال إنَّ عنده أملاً في أن تكون حرم الصرصور في القطار، وأنْ يوقفوه مرة ثانية، وتسقط الحسناء في حضنه مثل تفاحة نيوتن.
كنت أريد أن أختم فأقول إنَّ الغرب يحبُّ الحيوانات المطيعة، والمطربة، ولا بد أنَّ السيسي يطربهم، وكذلك بوتفليقة والأسد، فقد أوقفوا قطار الزمن، وقذفوا بنا من أجل هؤلاء الصراصير.
في الحكاية الشهيرة، النمل هو الذي ينتصر، والصرصور هو الذي يموت من الجوع. وفي الواقع، أرجو أن تكون الخاتمة مثل الحكاية، فما سمّيت حكايةً إلا لأنها تحاكي الواقع، وسأضحّي بالموسيقار، مع حبّي الشديد لغنائه الشجيّ في الصيف.
أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر