أفكار للنقاش.. الواقع والخطابات

23 يونيو 2019
+ الخط -
حينما وافق الدكتور طيب تيزيني، في سنة 1998، على إجراء مناظرة مع الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، كان يعرف، من دون أدنى شك، أنه داخل في معركة خاسرة، ولكنه، على ما أُقَدِّرُ، كان يريد أن يضع الأفكار الدينية المُحَاطة بسور حديدي من القداسة في موضع الحوار، والمساءلة، وإعمال العقل، وليقولَ إنه ليس من حقّ المشايخ علينا أن يخطبوا فينا، ويلقنوننا الأفكار التي يستظهرونها، ونحن نهزّ رؤوسنا طرباً، وتصديقاً، كما لو أننا خُشُبٌ مُسَنَّدَة.
كانت عناصر هزيمة طيب تيزيني باديةً للعيان، حينما بادأتْهُ مجموعةٌ من الطلاب المتدينين في مدخل المكان المعدّ لإجراء المناظرة بعباراتٍ استهدفتْ شخصَه الإنساني، ونعتته بأقسى العبارات التقليدية التي استخدمت عبر العصور في وصف الكافرين والزنادقة والملحدين والمرتدين، مع أن المناظرة لم تكن قد بدأت بعد، ولم يكن أحدٌ يدري إن كان تيزيني سيطرح أفكاراً زنديقة كافرة، أم سيمشي في حقل الألغام الذي أقدم على خوضه بحذر شديد، مستخدماً أكثر العبارات الفلسفية غموضاً وتهرّباً مما يمكن أن يدفع هؤلاء الطلاب إلى استخدام أيديهم، بدلاً من ألسنتهم، في التصدّي له ولموقعه الفكري.
قيل، في الكتب المدرسية، إن وزير حربية الحكومة الفيصلية، الشهيد يوسف العظمة، قد خرج، في أواخر شهر يوليو/تموز من سنة 1920، لمواجهة القوات الفرنسية التي يقودها الجنرال غورو في موقع ميسلون، وهو يعرف أنه خاسر، ولكنه أراد أن يثبت للعالم أنه من غير الممكن دخول مدينة دمشق من دون قتال! هذا كلام خطابي، إنشائي، بالطبع. فمع تقديرنا الكبير لبطولة يوسف العظمة، نقول إن دمشق، وكثيرا من مدن العالم الأخرى، استباحها غزاةٌ، عبر التاريخ، ودخلوها، بقتال، أو بحصار طويل، أو بصلح وتَفَاهُم.. وحقيقة أن شعب أية مدينة في العالم، عبر العصور، ينطبق عليه الوصفُ الذي ذهبت مقالة سابقة لصاحب هذه الكلمات، وهو أنه شعب "غلبااااان"، وما أكثر ما كانت الشعوب الغلباااانة تُضْطَرُّ للخروج إلى الشوارع بعشرات الآلاف لتأييده؛ حافظ الأسد مثالاً.
جاء في مذكرات الدكتور خالد العظم أن قائد الجيش العثماني الرابع، جمال باشا، الذي لقّبه السوريون -فيما بعدُ- بالسفاح، كان يُسْتَقْبَلُ في دمشق استقبال الفاتحين، وقد أُدْمِيَتْ أكفّ الحاضرين من شدة التصفيق، حينما امتدحَ خير الدين الزركلي ذلك السفاحَ بقوله: أحنوا الرؤوس ورددوا النظراتِ/ هذا مثالُ مُفَرِّجِ الكرباتِ. وأضافَ العظم، في محاولة منه لتحليل تلك الظاهرة، قائلاً: كل طبقات سورية، من طبقة الوجهاء والأغنياء (الأرستقراطيين)، إلى الطبقة الوسطى من الموظفين، بل حتى الطبقة العاملة، كانت تشترك في استقبال جمال باشا ووداعه في غدواته وروحاته. وكان الناس لا يعتبرون الاشتراك في مثل ذلك تأييداً منهم أو دعماً لسياسة ما. كانوا يحضرون لمجرّد الفرجة، وإلا كيف نستطيع تفسير الاستقبال الرائع الذي قوبل به الجنرال الفرنسي غورو عند قدومه إلى دمشق، إثر ظفر جنوده في معركة ميسلون؟ وكيف لا نغطّي وجوهنا خجلاً مما بدا من بعض المستقبلين حينما فكّوا رباط خيل عربة الجنرال، ووضعوا أنفسهم بدلاً عنها وجرّوها في الطريق بين دويّ المصفقين وهتافاتهم؟
الحقيقة هي أن الشعوب تحني رأسها للعواصف، وقد تسكتُ على الظلم زمناً طويلاً مثلما حصل في سورية خلال حكم الديكتاتور حافظ الأسد ووريثه، ولكنها، في يوم من الأيام، تثور وتضحّي في سبيل حريتها وخلاصها من الظلم والاستعباد، مثلما حصل في سورية بدءاً من سنة 2011. ولكن هناك مسألة لا يجوز لنا أن نتغافل عنها، وهي التي ذكرها خالد العظم في مذكراته، وتقول إن أهالي باريس لم يكونوا في الشوارع حينما دخل إليها جنود الألمان في 14/6/1940، بل اعتصموا في بيوتهم، وأغلقوا الستائر الخشبية. واستمر هذا سنتين كاملتين. وهذا، لو نعلمُ، درسٌ كبير.
دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...