ثلاثة أزاهرة أدركتهم حرفة الأدب

13 يونيو 2019

(محجوب بن بلة)

+ الخط -
ثلاثة من أدباء مصر أراهم حالة فريدة من التوافق في أشياء عديدة، على الرغم من اختلاف المصائر، ونصيب كل واحد منهم من الشهرة وحظه من متاع الدنيا: القاص والصحافي عباس خضر، ابن الفيوم، قرية دنقاش، وابن قبائل عربية بكل عاداتها وتقاليدها، وقد سكنت غرب الفيوم. الشاعر والصحافي والعاشق وسمير الليل وابن شيخ أزهري له مكانته وصاحب مقالب هزّت ليل القاهرة، كامل الشناوي، ابن الدقهلية، ذلك البساط الأخضر الساحر من دلتا مصر، ويمر بها النيل مزهرا وتحوطه الحسان والخضرة. الشاعر طاهر أبو فاشا الذي التصقت به "ألف ليلة وليلة" إذاعيا، فطغت على كل آثاره، وعاش بين الزقازيق ودمياط في سنوات الطلب الأولى حتى استقر به المقام في القاهرة.
يجمع الثلاثة الظرف وخفة الظل، ومجاورة الأزهر والدراسة فيه، وتجمعهم سنة ميلاد واحدة، 1908، وتجمعهم الصحافة، وإن كان نصيب طاهر أبو فاشا من الإذاعة يعد الأكثر أهمية وشهرة. ويجمعهم أيضا أنهم تمرّدوا على الأزهر، لبسا ولغة وأسلوبا ووظيفة. كان كامل الشناوي، بحكم الوضع العائلي الأكثر ثراء من الاثنين، أكثرهم حدّة في التمرّد والنفور من الأزهر، والتزاماته وقوانينه وطقوسه البالية، فترك الأزهر هاربا إلى المقاهي والصحافة والطربوش والملابس الإفرنجية، راميا الكاكولة إلى غير رجعة. أما عباس خضر وطاهر أبو فاشا، بحكم انتمائهما إلى الأسر الفقيرة التي تنتظر مرتب الوظيفة ووجاهتها في حينها، فقد التفّا على ذلك التمرّد على الأزهر ووظائفه الفقهية، بأن انضما إلى دار العلوم، حتى تضمن لهما وظيفة مدنية، بعيدا عن عذاب الفقه وحفظ السند والمتن، وتبعات النحو والصرف وأبيات الألفيّة، ودخلا إلى البدلة والكرافتة بعدما ودّعا الجراية والمجاورين ومقالب العميان، ونكات الفقر التي أحيانا تجور على الروح المدنية لمن يعشق الأدب، ويرتاد المقاهي، وتفتح له الصحافة ذراعيها، وإن ضنّت عليهما إلا بالنذر القليل الذي يقيم الأَوَد، كما حدث مع عباس خضر.
علّ ذلك هو سر هروب طاهر أبو فاشا إلى كتابة الأغنية، والكتابة للإذاعة، فاستطاع أن يتفرّغ إلى حد ما لنثره وشعره وجولاته وصولاته، وإن كانت لم تصل إلى ما وصل إليه كامل الشناوي، في لياليه وفنادقه ومسيراته وسيره في ركب الحسناوات والليل والسياسة وأمير الشعراء أحمد شوقي، وساعده على ذلك كبار المطربين في آنه، وعلى الأخص محمد عبد الوهاب الذي كان يتخوف دائما من لسان كامل الشناوي الجارح. وظل عباس خضر، ابن الفقراء، متنقلا من صحيفةٍ إلى أخرى، حتى استقر به الحال في مجلة الرسالة، منتظرا الجنيهين في آخر كل شهر، تساعده على السكن في غرفة في السطوح في طولون، أو التسكع في أروقة مكتبة باب الخلق صحبة الشاعر الكفيف، أحمد زين، أو صحبة محمد شوقي أمين، المحقق واللغوي والأخ الكبير للمفكر محمود أمين العالم، ثم عمل بالتدريس في السودان. وعلّ ذلك ما أثّر على نصيبه المحدود من الشهرة، على الرغم من جمال سرده، وخصوصا في كتابيه المهمّين "خطى مشيناها" و"ذكرياتي الأدبية"، وإن كان لم يصل إلى شهرة ولا بغددة أبدا، كما صوّر هو بنفسه الحال، فقد كان يقلب الطربوش الأحمر الذي كان يسمى "محمد علي"، حينما يطال منه الزمن، فيقلبه، ويسميه أبناء الفقراء من المطربشين، بعد قلبه، "علي محمد".
هل ينول الفقر من المصائر، وهل يغيّر في الحظوظ؟ وعلى الرغم من كل شيء، فقد تميز الأزهر، على الرغم من أي تضييق بفسحة من المرح ما بين طلابه وحتى أساتذته.