في حضرة المتحف

17 مايو 2019

متحف قطر الوطني.. "وردة الصحراء" في الدوحة

+ الخط -
لمّا قال إن متحف قطر الوطني هو "المبنى الأكثر جمالا في العالم"، كان نجم السينما الأميركي، جون ديب، يُفصح عن انبهارِه بما رأى، وهو يقف أمام هذا المتحف في كورنيش الدوحة. والانبهارُ هنا مفردةٌ قاصرة، إذا تعلقت بالمبنى الفائق الدهشة، وانصرفت عن الحياة النابضة التي تضجّ بها مساحاتُ المتحف في داخله، بكل ما فيه. وهذا عجيبٌ، فالمعهود في المتاحف أن تجمعَ ما تركه الأسلاف، وتحفظه، وتُريه للناس. وخطأ صريحٌ أن تكتفي بهذا، أو أقلّه لم يعد مقبولا، في أثناء اندفاعة الحداثة بين ظهرانينا، نحن المجتمعات التي تقيم في القرن الحادي والعشرين. على المتاحف أن تأخذ حواسّ زائريها، وليس فقط عيونَهم التي تحدّق في لُقيةٍ، وأخشاب سفينةٍ عتيقةٍ، وفي عظام رميم، وفي نقوشٍ وفخّارياتٍ وأوابد. عليها أن تأخذ حواسّهم كلها، فيشمّوا روائح الماضي مثلا. ويُنصتوا إلى مروياتٍ ومحكياتٍ، تستنفر أخيلتهم عن البعيد العتيق، المتروك هناك، في أزمنةٍ قصيّةٍ وأخرى غير قصيّة. لهم أيضا أن يروا صور التاريخ القريب والأقرب والأبعد موصولةً براهنٍ منظور. ولم تترك التكنولوجيات المثيرة مساحةً لأي كسلٍ أو رتابة، في تيسير هذا كله وغيره، وهي لا تؤدّي ما تؤدّيه إلا إذا حضر الخيال والذكاء. وهنا بالضبط كان الرهان، الباهر حقا، والذي جعله صانع القرار السياسي في قطر طموحا لا خيار ثالثا أمامه، فإما النجاح أو النجاح. وأظنّها ليا سلامة (ابنة غسّان سلامة) لم تتزيّد لمّا قالت، في برنامجها التلفزيوني في "فرانس 2" (اسمُه "مذهل")، عن المتحف، بعد افتتاحه في مارس/ آذار الماضي، إن قطر تريد أن تلمع في المشهد الفني العالمي.. والأعوام العشرة التي انقضت في بناء المتحف البديع، وتهيئة ما فيه، وتوفير أسباب الغبطة في جنباته، انتهت إلى أن يلمس أكثر من 132 ألف زائر في شهرٍ واحد، جالوا في سبعمائة مليون عام، في صالاته الإحدى عشرة، قسطا من هذا اللمعان.
دولة قطر حديثةٌ وصغيرةٌ، وغنيّة. لا تفتعل في المتحف الجديد لنفسِها تاريخا وأمجاداً في ماضٍ انقضى، وإنما توثّق سيرة قيامتها، واستثمارَها ما أودعه الله في أرضِها وبحرِها من ممكنات النهوض، والأخذ بإنسانها إلى مرتقىً فوق مرتقى. ولهذا تاريخٌ من الكدّ، وفيه حروبٌ مع معتدين وباغين، وفيه إرادةٌ وعزيمةٌ بالسفر إلى مستقبلٍ أحسن. أنت لا تنظر في هذا التاريخ، والنظرُ تأملٌ وتعلّمٌ، لمّا تطوفُ في المتحف، فتراه سردا تُلملمه قصاصات صحفٍ، وقطع معادن، وصور، وطوابع، وعملات نقد، وسجاديد، وقوارب، وحبّات لؤلؤ، وشباك صيد، وأثواب صيادين، وأنابيب نفط و..، لا، ليس هذه فقط، ثمّة معها، ومع كثيرٍ غيرها، رواياتٌ حيّة، مشهديات أفلامٍ تنطق عن مكابداتٍ وتجارب. وأيضاً، ثمّة إحساسٌ يملأك بما ترى، وبما تستشعره من أنفاس ناسٍ مرّوا في صناعة هذه السيرورة التي قدّامك انتقالاتُها من هنا إلى هناك، ومن ماضٍ إلى راهن، ومن صحارى ورمالٍ إلى حاراتٍ مطبوعةٍ بالبساطة، وصولا إلى عمرانٍ طموح، ومنشآت دولةٍ عصريةٍ، انبنت فيها جامعاتٌ وأسواقٌ ومنائرُ وملاعبُ ومصانع، واتّسعت فيها شوارعُ وميادينُ وحدائق.
تصل إلى هذا كله، وقد اغتبطت جوانحُك، واحتلت مداركَك قطوفٌ من تاريخٍ ناءٍ، لجغرافيا هذا البلد الذي صارع ناسُه أنواءً صعبة، حتى أدركهم التحدّي الذي هم فيه الآن، عندما يستهدف بلدَهم كارهون وحسّاد وكذّابون. هنا في هذه الجغرافيا، ترك الإنسان البعيد، منذ ملايين السنوات، كثيرا ترى منه في المتحف الفريد آلاف اللّقى والقطع، وآلافا من آثارٍ ساعد مكتشفون وجيولوجيون وخبراء أجانب في التنقيب عنها. وأنت لن تكون سائحا، يُزجي وقتَه كيفما اتفق، عندما ترى هذا كله، مُجتمِعا ومعروضا بأناقةٍ ساحرة، وحرفيةٍ بالغة الكفاءة، وإنما سترى نفسَك مستجيبا لنداءات حنينٍ وشغفٍ وحب، تُفضي بها أمكنة هذا البلد، برمله الساخن، وقد عبر فيها تاريخٌ من القدامة والعتاقة، تحكي عنه تصويراتٌ متحرّكةٌ أمامك، تجعلك تتحاور معها ربما، فكأنها تفعل الذي سيطلبُه متكلمون كثيرون غدا، في يوم المتاحف العالمي (18 مايو/ أيار كل عام)، أن تكون المتاحف حيّة، مبتكِرة في إقامة حوارٍ بين ما فيها وزوّارها.
.. ما لي أنفقتُ مساحة هذه المقالة عن الذي في داخل المتحف، بإيجازٍ، وكل إيجازٍ مخلٌّ طبعا، وانصرفتُ عن مبنى المتحف، والذي صمّمه معماريٌّ فرنسي فنان، المبنى الرملي اللون، على هيئة بتلات زهرةٍ.. قال عنه جون ديب إنه أجمل مبنىً في العالم. هل أقدرُ أن أضيف قولا آخر إذن؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.