عبد الفتاح كيليطو.. الغائب عمداً

25 ابريل 2019
+ الخط -
وكأنه يتحدّث من مدن خرافية هناك. مدن عذّبته في الكتب، وآمن بها في الكتابة إيمانا مهزوزا، فالرجل يبحث ولا يدّعي يقينا أبدا، بل هو كالمسرور بالحيرة دائما في نهاية كل كتاب. الكتب هي مدنه. الكتابة حيلته في المعرفة، والغياب زادُه، هو يحكي خطأ الكتب على طريقته، هو يؤلف متاهة أخرى على هدى ما تم تأليفه، تأليف للمعرفة والحيرة أيضا، وما المعرفة إلا حيرة نابهٍ يحاول أن يتخفّف فقط من ثقل الحيرة، والرجل يحارب وحيدا من غير صخب ولا أضواء ولا صحافة تربكه. الرجل يعشق الكتابة على طريقته، من غير مهرجانات أو أي بخور للشهرة، وكأنه يستأنس بالخرافة ويداعبها، خرافة نفسه، وخرافة الكتب، وخرافة العالم أيضا.
كل خرافةٍ ملتبسةٌ بشيء من حقيقة، تدهشه أول خيط من حقيقة هينة، وينجرف وراءها في الكتب، هناك حد فاصل وغامض بينهما (الخرافة وما يسعى هو إليه)، هو يسكن هذا الحد الفاصل، ويحاول جاهدا أن يبحث فيه.
لا حقائق باردة عنده، ولا خرافة إلا وقابلة للتأمل عنده أيضا. كل حقيقةٍ تثير الشك في أخرى، وكأنه يناطق الخرافة بخرافة أخرى خلال رحلة تنقيبه في الكتب.
في كتابه "الغائب" يكتب: "إن كلمة خرافة في الأصل، علم، اسم رجل من بني عذرة استهوته الجن كما زعم العرب مدة، ثم لما رجع أخبر بما رأى منهم، فكذبوه حتى قالوا لما لا يمكن تصديقه: حديث خرافة". فهل انتقلت الخرافة إلى السرد، وخصوصا إلى الحريري، صاحب المقامات، وهل في "الغائب" كان عبدالفتاح كيليطو يحاول جاهدا أن يتأمل خرافة السارد أو الكاتب أو الحريري نفسه.
هل ضربت "ألف ليلة وليلة" عبد الفتاح كيليطو، فصار الرجل، كما يقال عن رواة السيرة الهلالية في الصعيد، لقد صار الرجل مضروبا بالسيرة، وهكذا طار كيليطو مضروبا بالخرافة التي تتخلل السرد في المقامات، أو في "ألف ليلة وليلة"، أو المنسوخ من الكتب. باحث يبحث عن جوهر الوجود في النص القديم، فيزيده جدّة وبهاءً، فمرة تراه هائما في الكوفة وراء نصوص الحريري، ومرة ينط وراء النصوص إلى بغداد، من دون أن يفقد الدراية بحِيل البلاغيين، أو ألاعيب أهل النحو، وأحيانا يقترب بحذر من معتقدات أهل الكلام والفرق والملل والنحل، ودلالات وأصل توجههم ومقاصدهم، وقد يترك كل هؤلاء داخل صوامعهم وكتبهم، وينطلق إلى شهرزاد وليلها، وهي مشاغلة السيّاف والملك، حتى يفيق الملك نهارا إلى حقيقة ملكه ونهاره، فيشرع في مظالمه ويأمر جنوده، ناسيا الليل وحكاياته وسرده، وقد يتملص كيليطو من فجوات السرد في حكايات شهرزاد، منطلقا إلى وحدة (وحيد) بالمعرّة بالشام في محبسه، ومرة ينطلق إلى تعدّد الألسنة وتشتتها في "لسان آدم"، وقد ينطلق من "برج بابل" تاركا تشتت الألسنة، حتى يصل إلى نصوص بارت وغيره.
كاتب ينتقل من حديقة إلى أخرى، ويقرأ بلسانين ويكتب بلغتين، من دون أن يكون سوى نفسه فقط. لا يجيد الكلام أمام الناس، فقط يجيد الكلام كتابة، فنال صفاء الوحدة وصداقة الشرّاح في الكتب. نهل من الجاحظ والبلاغيين القدماء بلا شك، ومن النصوص الفرنسية المعاصرة. زاهد لا يتباهى بزهد، وحكّاء من طراز فريد لا يتباهى بحكاية. علّه هو، زهد نفسه، وحكاية نفسه. وكل آنٍ "يمنحنا" كتابا، ثم يعود إلى وحدته.
لا يلعب في معسكر أحد، ولا يقاتل في جيش أحد، ولا يتحزّب لأحد، ولا يتحزّب حتى لكتابة أحد من أصحاب السطوة أو المال، فقط ينصت لكتابة الكون وحيدا، وكأنه يعيش في حلم طويل من صنعه، حلم من كتب، ونساء من كتب، ومكر من كتب، ومرح من كتب. وكأنه يعي جيدا الدهر ومكره، كما يقول هو: "الدهر ذو لونين، فهو يخضع ويتغلب، يطيع ويتمرّد، يفي بوعده ويخلف، ليس باستطاعة أحد التكهن بنيّته، بدلالة علاماته، ما يصدر عنه حوادث مختلطة، مزيج من الخير والشر". علّ الرجل وعى درس الدهر مبكرا، فلم يأمن إلا لصومعته وكتبه، وقد فعل الجميل والحسن.
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري