إرّي دي لوكا يخترع ابناً له

19 مارس 2019

إرّي دي لوكا وكتابه "جولة الإوزة"

+ الخط -
ينتمي الكاتبُ الإيطالي، إرّي دي لوكا، وهو من أهمّ الكتاب المعاصرين، إلى كتّاب القرن العشرين قطعًا، لا لأنه مولود عام 1950، بل لأنه من فئة الأدباء الذين عنى ويعني لهم التزامُهم السياسيّ والإنساني والنضاليّ بقدر ما عنت وتعني لهم حياتُهم الأدبيّة. والمقصود هو أن التزامهم لم يكن فكريا أو نظريا فحسب، بل إنه تجسّدَ فعلاً وممارسةً وكفاحًا سنوات طوال، وهو ما أجبرهم على دفع أثمانٍ باهظةٍ بلغت دخولَ السجن أحيانا بسبب قناعاتهم.
ولد إيرّي دي لوكا في عائلة برجوازية من مدينة نابولي. ومن هذا أفاد فقط من مكتبةٍ مهمّةٍ كانت لوالده، وفتحت عينيّ الصبيّ على عالم الكلمات، وجعلته يعشق اللّغة الإيطالية، لأنها، كما سيقول لاحقا، "موطنه ولغة أبيه". باكرا، غادر دي لوكا كنفَ العائلة، ليلتحق بالشبيبة الثورية، وليصبح من ثم عاملا في المصانع، وبنّاء، ومتسلّقا للجبال، ومدافعا عن البيئة والطبيعة، وشاعرا ومترجما وروائيا.. أجل لقد عمل دي لوكا في هذا كلّه وأكثر، ومن حسن حظه أن كتبه لاقت رواجا منذ بدأ الكتابة، وهو في العشرين من عمره، فنالت جوائز وتُرجمت إلى لغاتٍ عالمية، منها العربية، وإلا لكان ربما توقّف عن التعاطي مع الكلمات، على الرغم من حبّه الكبير لها. "كان لديّ الكلمات. من دونها، لكنت أصطدم بالجدران".
في كتابه الجديد، الصادر في إيطاليا عام 2018، والمترجم حديثا إلى الفرنسية بعنوان "جولة الإوزة" (هي لعبةٌ تنقلُ اللاعبَ من خانة إلى أخرى من خلال رمي النرد) يروي دي لوكا هذا كلّه لابنٍ لم يرزق به حتى، يظهر له في ليلةٍ عاصفة، جالسا في العتمة بسبب انقطاع الكهرباء، فإذا به يخاطبه راويا له حياته، طفولته في مدينة نابولي، حنينه إلى العائلة، إحساسه بضرورة الرحيل، التزامه السياسيّ، خيباته، نضالاته، إلخ... كأنما هو يحتاج أحدا مجهولا لا يعرفه، وإنما حميم وقريب بالدرجة الكافية التي تدفع به إلى أن يروي له حكاية حياته.
بيد أن الابن الصامت الذي يحيلنا، كما يشير الكاتب في مطلع روايته إلى بينوكيو، اللُّعبة الخشبية التي ستُبثّ فيها الحياة، لن يبقى صامتا، فإذا بالخشب هنا يصبح كلماتٍ وورقا، وبالمونولوغ يتحوّل إلى حوار. بعد استماعه إلى الأب، يبدأ الابنُ يستفسر ويحاور ويطرح الأسئلة، وصولا إلى صوغ تعليقاتٍ ساخرة، وانتقادات لاذعة ضد أبيه، ما سوف يفضي لاحقا إلى نشوء مواجهةٍ قويةٍ بينهما، لن يرحم خلالها أحدُهما الآخر.
والنتيجة؟ تمرينٌ على النقد الذاتي، بما أن الابن المتخيَّل غير معجب البتّة بمسيرة الوالد المزعوم، غير مندهش بسيرته أو بآرائه، لا بل هو ناقد مرّ له: "أنت كاتبٌ يقوم بإدارة دولاب مدينة الملاهي، لكي يُخرج الطفلَ القابع في كل قارئ". فهل معنى ذلك أن الكاتب لا يُفهم أبدا فعلا؟ أو أن أفعال حياتنا لن يفهمها من يأتون من بعدنا؟
"ما يهمّني فعلا هو الصفحة التي تُبقيني صاحيا عندما أكتبها، وليس تلك التي كتبتها ولا أعيد أبدا قراءتها". وبالفعل، لا بد أن يشعر القارئ أن دي لوكا يكتب تحت إلحاحٍ أو اضطرار ما، "إني أركّز قصصي المختلطة بشكل عشوائي، قبل أن تختفي"، من دون أن يكون الهدف إعطاء دروس أو تعليم أي شيء. "أمام الواقع، أبقى مبتدئا يتعلّم، أبقى قليل الخبرة بشكل مزمن، حتى وإن كنتُ موهوبا لبعض الأشياء". لا بد أن دي لوكا يعني، بقوله هذا، قدرته المذهلة على تأليف رواياتٍ رائعة وأعمال مميزة، هو القائل "طالما بقي الصنف البشري على قيد الحياة، سوف يستمرّ يطالب أن تروى له الحكايات"..
هل هو كتابٌ عن الأبوّة؟ ربما. أجل. الأبوّة بما هي ترك أثر لابنٍ متخيَّل قد يكون هو القارئ نفسه.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"