طريق "المؤامرة" الطويل

04 نوفمبر 2019
+ الخط -
لا بد لكل من يتابع مشهدية التظاهرات العارمة في العراق ولبنان أن يشعر بأنه لا يزال هناك أمل في الحراك المدني في الدول التي تعتريها انقسامات طائفية كبيرة. وأن إمكانية الخروج على التقسيمات المذهبية التي أريد لهذه البلاد الغرق فيها ممكنة. 
في العراق، وتحديداً في بغداد وكربلاء والنجف، لم يكن للمرء أن يصدق أن شعارات مثل التي شاهدناها مرفوعة ضد الطبقات السياسية والمرجعيات الدينية والسياسية، وتحديداً الإيرانية، يمكن أن تظهر في الساحة العراقية التي سيطرت عليها مليشيات متعددة المشارب والمذاهب، وعمدت إلى محاصرة الأفراد ضمن إطار ديني ومذهبي، مع الحرص على ألا يخرج منه. إلا أن الأمور لم تسر كلياً كما أرادت هذه الأطراف، ومشاهد التظاهرات دلالة على أن حالة وعي جديدة بدأت بالتشكل خارج الأفكار المعدة سلفاً، والتي أريد للمجتمع العراقي السير على هديها.
الأمر نفسه يمكن القول عنه في لبنان، فالانقسامات العميقة في البلد، وإرث الحرب الأهلية الطويل، إضافة إلى التدخلات السياسية الإقليمية والدولية وارتهانات الأطراف لها، أوصلت إلى قناعة أنه من غير الممكن مشاهدة مئات آلاف اللبنانيين يتجمّعون تحت راية واحدة، ومطالب بعيدة عن الفئوية التي أريد للبنانيين العيش في كنفها، غير أن ذلك حصل بالفعل، وضمن مشاهد مبهجة بثت أملاً في نفوس الكثيرين، وأعطت انطباعاً أن المستحيل لا يزال ممكناً.
غير أن مشهدي العراق ولبنان الحاليين لا يمكن أن يكونا إلا بدايةً لحالة التغيير العامة المطلوبة، ليس سياسياً فقط، بل اجتماعياً أيضاً، وهو ما تدركه الطبقتان السياسيتان في العراق ولبنان، إضافة إلى القائمين الإقليميين المعنيين بهذين البلدين، وهو ما انعكس هجوماً شرساً على الحراكين، ووضعهما في سياق المؤامرة الدولية والصهيونية، كما قال مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي، وسبقه إلى ذلك الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، وإنْ بلهجة مختلفة، عندما وضع علامات استفهام حول الحراك اللبناني، وارتباطه بسفارات أجنبية. ولكنّ خامنئي ونصرالله، وغيرهما من القلقين من الحراكين العراقي واللبناني، لم يفندا فحوى المؤامرة هذه، فإذا كان التخلص من الإرث الطائفي والمذهبي وكسره في النفوس والنصوص يمثل مؤامرة، فلا بد لجميع المعنيين بخلق مستقبل أفضل للعراق ولبنان، وغيرهما من البلدان التي تعيش حالة تشرذم اجتماعي مشابهة، أن يرحب بمثل هذه المؤامرة. وإذا كانت المطالبة بمحاربة الفساد ووقف الهدر واستعادة الأموال المنهوبة هي وصفة تآمر، فلا بد أن يكون الجميع متآمرين.
غير أن "المؤامرة الحقيقية" بالنسبة إلى هؤلاء هي الخوف من توسّع الحالة الرافضة للقيود الدينية والطائفية والسياسية المرتبطة بهذين العنصرين، وخروجها عن السيطرة، إضافة إلى تمدّدها إلى مناطق أخرى، وربما إلى الداخل الإيراني تحديدا، وتهديد عناصر الوجود الحالي لهذا النظام وحلفائه، وهو ما يفسر الهجمة الشرسة على هذا الشكل من الحراك. الأمر ليس مختلفاً بالنسبة إلى دول أخرى في المعسكر المناوئ لإيران، فالسعودية على سبيل المثال، وإن كانت تظهر في إعلامها تأييداً للحراك الحالي، إلا أنها لا تفعل ذلك إلا من باب مناكفة إيران، إلا أنها في لحظة الحقيقة ليست بعيدة عن النهج والقلق الإيرانيين من مثل هذه الحركات الشعبية العابرة للطائفية، وخصوصاً أن التركيبة الطائفية هي أساس نظام المملكة أيضاً.
في كل الأحوال، لا يزال طريق تحقيق هذه "المؤامرة" طويلاً. ومن المبكر الاستنتاج أن المشاهد التي نراها هي انعكاس كامل للمجتمع، على الرغم من أن صوتها هو العالي اليوم. فخروج هذه المجتمعات من إرث عمره عشرات السنين، وتدخلات سياسية، سعت إلى تكريس التباعد بين مكونات البلد الواحد، يحتاج إلى الكثير من الجهد الذي يقع، في قدر كبير منه، على القائمين حالياً على الحراكين في لبنان والعراق، وقدرتهم على التأثير في المجتمع.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".