لبنان: ولادة الوعي

16 نوفمبر 2019
+ الخط -
يتحدّث كثر عن الوعي في لبنان بكونه عنصراً أساسياً في انتفاضة 17 تشرين، ومع أن مفهوم الوعي، بحدّ ذاته، غير محصور باتجاه محدّد، إلا أنه في الحالة اللبنانية، هو تعبير عن "خروج من ذهنية متأصلة بفعل تراكمات مائة عامٍ من سلبيات لبنان الكبير". هذا الخروج لم يكن سهلاً، وإن كان صغيراً في الوقت الحالي، فالحاجة إلى تزخيم عنصر الوعي مشابهة للاستثمار في الإنسان تعليمياً ومهنياً واجتماعياً. لا يمكن التفكير في أن كل شيء سيتغير بين لحظة وضحاها، فالانسان قد يستصعب تغيير مكان عمله أو نومه أو مسكنه، ويحتاج وقتا من أجل التأقلم مع المستجدّات. كذلك الأمر في الحالة اللبنانية، فحجم الوعي بات أكبر مما كان عليه في السابق، والأهم أنه يكشف من هم المتسلقون والانتهازيون والوصوليون. الوعي مرافق لمبدأ "الثورة تطهّر نفسها"، فمن حسناته أن من يسعى إلى التغيير يكون مدركاً أنه لا يرغب في إحلال بديلٍ لما سيغيّره، مشابه له. لذلك، تجمع الساحات الجميع، لكنها في لحظة الاستحقاق ستفرزهم يمنة ويسرة. ليس الأمر مشابها لـ"الثورة تأكل أولادها"، إنما يترجم قدرة الوعي على السيطرة على المحطات المستقبلية. 
مشكلة الوعي أساساً في لبنان أنه طُمس بفعل سلسلة تراكمات ترهيبية طوال السنوات المائة الماضية، منها ما هو مباشر، كالقتل والاعتقال والضرب والتعذيب، ومنها هو غير مباشر عبر تسويق مبدأ الزبائنية، وربط مصالح الأفراد بمصالح الحزب أو الزعيم، المحميين من طائفة ما ودولة إقليمية أو عظمى. هذا الربط جعل الشخص المعني غائباً عن الوعي، بالمعنى المجازي، وسامحاً له بإطلاق العنان لغريزةٍ بدائية، يُفترض أنها انتهت مع اكتشاف الإنسان النار. تجلّى هذا الربط في بعض المحطات في الشهر الأول من الانتفاضة اللبنانية، كبناء الجدران، وإن كانت النية سليمة، وفي سياق التشبيه مع الفيلم الوثائقي "winter on fire" الذي يروي قصة الثورة الأوكرانية 2013 ـ 2014 ضد الرئيس المخلوع، فيكتور يانوكوفيتش. ولكن بناء الجدران الرمزية في بعض المناطق أوحى بفترة الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، التي كانت فيها المناطق اللبنانية أشبه بإدارات ذاتية طائفية. كما برز الربط في مسألة الاعتداءات على المتظاهرين، واعتقال عشرات منهم، سواء لسبب إحراقهم أو تمزيقهم صورة، أو لممارسة حقهم في التظاهر والتعبير. ولكن التعذيب الذي مارسته الأجهزة الأمنية والأجهزة الحزبية ضد هؤلاء هو بداية نهاية لها.
تجلّى الوعي أيضاً في التمييز بين من يسعى إلى الانتفاضة حالةً إنسانية عابرة للتصنيف الطائفي المناطقي للفرد ومن يريد تصفية حسابات سياسية، واعتباره الانتفاضة كأنها فرصة انتقامية له. أصلاً الأحزاب التي تناور عبر الإيحاء بأنها "مؤيدة للثورة" إنما تثأر لما تعتبره إجحافاً بحقها في تقاسم السلطة. بمعنى آخر، لو أن هذه الأحزاب نالت ما تعدّه حقاً لها في السلطة، وتنعّمت بمغانمها، لكانت في طليعة المتعدّين على الناس وصوتهم. من الضروري أن يميّز الوعي هذا النوع من الأحزاب وقادتها.
الوعي نفسه يشخّص من يقدّمون أنفسهم وكأنهم بدائل عن السلطة، تحديداً الذين يحصلون على التسويق الإعلامي المكثف، والذي يمكن اعتباره أقرب إلى حملةٍ دعائيةٍ منه إلى ترويج انتفاضة أو ثورة. هذا الوعي سيطاولهم أيضاً. في هونغ كونغ، هناك جوشوا وونغ، يلتف حوله المعارضون للصين والمطالبون باستقلال الإقليم. في لبنان، ليس هناك من جوشوا وونغ، بل مجموعة مدّعين، برزت نماذج مثلهم في عام 2015، في أثناء الحراك ضد النفايات، واليوم كذلك. مشكلة لبنان أنه صغير للغاية، إلى درجة أنه يمكن فضح ارتباطات بعضهم بسياسيين أو أحزاب، لكن الرهان على الوعي هو الحلّ الأمثل، وهو من سينتصر، في نهاية المطاف، خصوصاً إذا ما تحوّل إلى حالةٍ تطبيقية، ويبدو أنه بات أقرب من أي وقتٍ مضى.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".