حرائق لبنان

حرائق لبنان

18 أكتوبر 2019
+ الخط -
"هناك وراء الأنين/ أنين التراب/ حريق سجين". هذه الكلمات التي اختارها الشاعر اليمني الراحل، عبد الله البردوني، مطلعاً لقصيدته "الحريق والسجين" تكاد تختزل وضع لبنان المشتعل، لا بما تبقى من مساحاته الخضراء فقط، بل بالأزمات التي تلتهمه، وتحوّل مواطنيه إلى سجناء في دائرةٍ مغلقة، يُجبرون فيها على الاستماع لهراء من يتحكّمون بمصيرهم. وحده التكافل العفوي بين أبنائه يكاد يكون الناجي الوحيد، على عكس ما يشتهيه أولئك الذين لم يجدوا سوى اللاجئ السوري، ليتهموه بإشعال الحرائق، أو استدعوا نظريات المؤامرات الطائفية حتى في الحرائق. 
مشهد التزاحم بين اللبنانيين لمساعدة المنكوبين جرّاء الحرائق، فتح المنازل والفنادق لاستقبال الفارّين من منازلهم التي طاولتها نيران الطبيعة، خلايا النحل التي تشكلت تلقائياً وكانت تحاول تقديم ما في استطاعتها، عناصر الدفاع المدني بمخيمات الفلسطينيين الذين هبّوا للمساعدة، قابله مشهد من نوع آخر أقلّ ما يوصف به بالهذيان.
في بلد غير لبنان، وربما خارج العالم العربي، فضيحة العجز الرسمي للدولة عن التعامل مع الحرائق، وغياب المسؤولين عن السمع ساعات، وعدم صيانة طائرات الإطفاء، والتبريرات التافهة التي خرجت بعدها، وتفاصيل عدم تمرير مراسيم تعيين حرّاس الأحراج بذريعة "التوازن الطائفي" الذي تحوّل إلى سلاحٍ يُشهر عند تعيين أصغر موظف في الدولة، كان يفترض أن تطيح المسؤول تلو الآخر. أو على الأقل أن تدفعهم إلى أن يصمتوا خجلاً، ويتواروا عن الأنظار مؤقتاً، مراهنين على ذاكرة السمكة للبنانيين أو على أزمة جديدة تنفجر، وتُنسي المواطنين ما جرى.
ولكن، لأن لبنان يمرّ بواحدةٍ من أسوأ فتراته السياسية، لا وجود فيها للمساءلة أو للحياء، لم يخجل نائبٌ من تيار العهد من التساؤل عن أسباب اندلاع الحرائق في قرى مسيحية بالتحديد! لا حاجة للتأكّد من أن ما قاله النائب قد أسيء فهمه، أو خانه التعبير، كأن يكون قصده التساؤل فقط عمّا إذا كانت النيران اشتعلت بفعل الظرف المناخي أم عمداً. الطريقة التي كان يتحدّث بها لا تدع مجالاً للشك أو للنيات الحسنة. ممثل اللبنانيين في المجلس النيابي قالها بثقة، معترفاً بأن كلامه "إلى حد ما طائفي". وكان ينقصه فقط أن يربط الحرائق بمؤامرةٍ لإسقاط العهد، وسيجد من يصدّقه وينافسه في التنظير لهذه التفاهات، وكأن العهد الذي يمنَّنُ اللبنانيون به ليلاً ونهاراً، منذ نحو ثلاث سنوات، جلب الرخاء الاقتصادي، وحارب الفساد، وقضى على البطالة ونظام المحاصصة والمحسوبيات وأمّن التغذية الكهربائية على مدار اليوم، وكرّس نفسه نصيراً للحريات السياسية والحقوقية.
يحتاج نائب العهد كما وزراؤه الذين يضيقون ذرعاً بكل رأيٍ مخالف، ويسخّرون نفوذهم الموزع على السلطات وفي الإعلام لإرهاب كل من ينتقدهم وإسكاتهم، ويستدعون مقارباتٍ من نسج الخيال الرديء إلى النزول من عليائهم قليلاً، والنظر حولهم، علّهم يعون ما يجري، فالبلد الذي يوجدون فيه يغرق اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً من أقصى شماله إلى جنوبه. دخلت الليرة مرحلة التذبذب الدائم أمام الدولار والتطمينات المجانية التي توزّع بلا جدوى. وحدها كلمة الصرّافين عن سعر الصرف اليومي هي الحقيقية. الإضرابات تتكرّر، بعضها محق وبعضها الآخر مدفوع بجشع تجار هم إما واجهات لسياسيين أو شركاء لهم، يحتجون ليس على خسائر تلحق بهم، بل على تناقص هامش أرباحهم التي ينهبونها من اللبنانيين.
أما الانهيار فمؤجل، لا بفعل فرادة العهد وإنجازاته المزعومة، بل بسبب تقاطع مصالح دولية لا ترى أن اللحظة الراهنة تسمح بذلك. ومسؤولية العهد، بنوابه ووزرائه، عن الوضع لا تقل عن التي تتحمّلها باقي القوى السياسية الأخرى المشاركة في الحكم. ولا تكفي نظريات المؤامرة والصوت المرتفع وحالة الإنكار التي يعيشون فيها لإخفاء دورهم وقبح المشهد.
جمانة فرحات
جمانة فرحات
صحافية لبنانية. رئيسة القسم السياسي في "العربي الجديد". عملت في عدة صحف ومواقع ودوريات لبنانية وعربية تعنى بالعلاقات الدولية وشؤون اللاجئين في المنطقة العربية.