نزع القطن من جوف الدمية

09 يناير 2019
+ الخط -
جبينُه ما زال يندى، ومساماتُ وجهه أثبتت أخيراً احتفاظها ببقية عرق، قد تنضح حبَّاتُها لامعةً أمام عدسة الكاميرا، إن مرَّ في موقفٍ حرج، لتفند الظن السائد، بين خصومه على الأقل، بأنه فقد القدرة على الشعور بالخجل، أو الإحساس بالحياء، منذ خرج على الناس، بعد أولى جرائمه، متبجّحاً بأنه يقتل أبناءهم دفاعاً عن أمنهم واستقرارهم.
هو اعتاد، قبل دخوله زنقة الحقيقة المثيرة لغددٍ لتعرق، أن يعتلي المنابر المريحة، دوماً، ليلقي الخطابات المليئة بالمواعظ، ولا يتوانى أحياناً عن التنكيت، وكله ثقةٌ بأن سامعيه الأقربين، أو المرئيين، لن يفعلوا غير التصفيق دهشة من بلاغته، حتى حين يتلعثم مرة في كل جملتين، وإعجاباً بحكمته، مهما كان مبلغ الهراء في كلامه، واستحساناً لخفّة دمه، أياً كان مقدار السماجة في طرفةٍ يفتعلها أمامهم.
قد يقول قائل هنا أيضاً؛ لا تنسى إعجاب المعجبين بوسامته الأخّاذة التي أذابت قلوب النساء ولهاً، حتى أن إحداهن كتبت له يوماً "اغمز بعينك تلقانا ملك يمينك"، وكذا بتاريخه العسكري البطولي في خوض معارك الدفاع عن حياض الوطن ضد الأعداء الجبناء، فضلاً بالطبع عن حنكته السياسية المتجلية في حفظ مكانة بلاده وسط صراعاتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ عاصفة.
لكن حواراً تلفزيونياً واحداً يتورّط فيه "القائد الملهم" مع صحافيين من بلادٍ لا يخشى ناسها زعماءهم، سيبدو أشبه بنزع أكوام القطن من جوف الدمية، وسيراه الناس يعود خلال "ستين دقيقة" لا أكثر، إلى ما كان عليه قبل حشوه بالأوهام، شخصاً هشّاً ضئيلاً مرتبكاً، يستدعي الشفقة بقدر ما يستدعي التساؤل عن السر وراء وصوله وأمثاله إلى القدرة على التحكّم بمصائر شعوبهم العريقة، والبطش بمعارضيهم السياسيين، في حين يواصلون انبطاحهم الذليل أمام كل إشارةٍ تصدر عن مسؤول أميركي أو إسرائيلي.
وإذ تتسع الأجوبة المحتملة لطيفٍ واسعٍ من التحليلات السياسية التي ينحو بعضها إلى نظرية المؤامرة، فإن القاسم المشترك بينها جميعاً صار يمكن اختزاله في قرائن تعكس ارتباط هؤلاء مصلحياً بمعسكر الأعداء التقليديين أو التاريخيين لأوطانهم، وكان أحدثها اعتراف صاحب مشهد التصبّب عرقاً أمام صحافي أميركي، ببلوغ تعاونه مع إسرائيل حد الاستعانة بسلاحها الجوي لقصف مواقع التنظيمات الإرهابية على أرض وطنه، محاولاً بذلك نيْل مزيدٍ من الحظوة لدى البيت الأبيض، ومن غير أن يكترث بمعنى السيادة الوطنية، ولا بمشاعر من ضحّوا بأعز ما لديهم دفاعاً عنها.
المقصود بكل ما سبق، كما تعرفون، هو طاغية عربي، تصادف أن اسمه في هذه المرة عبد الفتاح السيسي، ولكنه كثيراً ما ظهر قبلها، وربما يظهر بعدها، على تلك الصورة المُزرية، بأسماء أخرى عديدة، منها بشار الأسد ومحمد بن سلمان، وسواهما من رموز الحقبة الدامية المظلمة التي نعيش، بل نموت فيها كل يوم، أفرادا وشعوباً، بالمعنيين، الواقعي والمجازي، على حد سواء.
ألم يرفض الأسد أي مساومةٍ مع شعبه، واختار تدمير سورية على أن يتنازل عن بعض سلطته المطلقة، قبل أن نراه يفرّط بالسيادة الوطنية كاملةً أمام القوى الدولية والإقليمية، من روسيا إلى أميركا، ومن إيران إلى إسرائيل، كي يحتفظ بمنصبٍ صار فيه أشبه بالدمية أيضاً؟ ثم ألم يذبح ابن سلمان من يختلفون معه، ويزجّ معارضيه في زنازين القمع والتنكيل والاغتصاب، لأسبابٍ واهيةٍ، بينما نراه يلوذ بالصمت المشين أمام الإهانات الموجهة إلى السعودية من الولايات المتحدة الأميركية، بعدما كان كثيرون قد شاهدوه في ما هو أقلّ مكانةً من الدمية، يوم وقف ضاحكاً ببلاهة إلى جانب الرئيس دونالد ترامب الذي كان يشرح كيف "سيحلبه" وفق تعبيرٍ لا يملّ من تكراره.
إنه زمن حُكم الدمى، يصنعها صانعوها، ويحشون جوفها بالعهن المنفوش، كلما أرادوا استخدامها لترهيب شعوب المنطقة، وينزعونه منها، كلما استدعت مصالحهم إعادتها إلى أصلها، خِرَقَاً بالية، ومثيرة للاشمئزاز.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني