تناقضات الصورة في أمن الخليج

09 يناير 2019
+ الخط -
مع بلوغ الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية نهايتها، وإعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عزمه الانسحاب من سورية، تنشغل مراكز البحث والتفكير في العالم، ومعها وسائل الإعلام، بدراسة وتقييم انعكاسات ذلك على المشهد العام لمنطقة الشرق الأوسط عموما، والخليج خصوصا، وتأثيره في ملامح وخارطة توزع القوى فيهما خلال المرحلة المقبلة.
وفيما يُتوقع أن يترك الخروج الأميركي المرتقب في العام 2019، وهو التطور الأهم في المنطقة منذ الدخول الروسي إليها في سبتمبر/ أيلول 2015، أثرا بالغا في طبيعة العلاقة بين ثلاثي أستانا (روسيا وإيران وتركيا)، يواكبه تعاظم في الدور الإسرائيلي في الصراع الدائر في سورية، تعيش منطقة الخليج العربية حالةً من الترقب وعدم اليقين إزاء ما يجري، وسط محاولات أميركية للطمأنة، يقودها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، عندما يزورها الأسبوع المقبل. لكن، وبغض النظر عن الضمانات الأميركية، ومدى موثوقيتها، لا يمكن الحديث عن أمن الخليج، من دون الوقوف على الصورة المتناقضة التي تكشف عنها الأرقام بهذا الخصوص.
نقطتان مهمتان تلفتان الانتباه هنا، ولا يجوز لأي تحليل متوازن أن يتجاوزهما. الأولى، أنه وعلى الرغم من أن موازين القوى الاقتصادية والعسكرية تميل بقوة لصالح دول الخليج العربية، إلا أن أثر ذلك يبدو مقلوبا على الأرض، في ظل تفوق إيراني واضح على المستويين، التكتيكي والاستراتيجي.
اقتصاديا، بلغ الناتج الإجمالي القومي لدول الخليج العربية في العام 2017، بحسب أرقام البنك الدولي، 1462 مليار دولار في مقابل 439 مليارا لإيران، أي أن الناتج القومي لدول الخليج العربية، التي عدد سكانها أقل من نصف عدد سكان إيران (81 مليون نسمة)، يزيد ثلاثة أضعاف عن ناتج الأخيرة. وينبغي أن تنعكس هذه الفروق في الإمكانات المادية فرقًا في القدرات العسكرية، وهو ما يحصل نظرياً. وبحسب معهد استوكهولم لدراسات السلام (SIPRI) بلغت الميزانية الدفاعية لدول الخليج العربية مجتمعة في العام 2017 ما يقرب من 129 مليار دولار (السعودية وحدها 76 مليارا تليها الإمارات بـ 30 مليارا)، أي أكثر من ثمانية أضعاف إنفاق إيران على الدفاع (16 مليار). أما لجهة مشتريات الأسلحة، فقد وقعت دول مجلس التعاون الخليجي على اتفاقيات تسليح بقيمة 162 مليار دولار من 2008 إلى 2015، تسلمت منها ما تقرب قيمته من 50 مليار دولار. في حين بلغ حجم عقود إيران التسليحية خلال الفترة نفسها 900 مليون دولار، تسلمت منها ما تقرب قيمته من 400 مليون دولار، أي أن نسبة تنفيذ عقود التسليح تبلغ 124 ضعفا لصالح دول الخليج العربية. وتتبوأ الولايات المتحدة قائمة الدول المصدّرة للأسلحة إلى المنطقة، وهذا يقود الى النقطة الثانية في التناقض الحاصل في الصورة.
تاريخياً، قامت علاقة الولايات المتحدة بدول منطقة الخليج على نوعٍ من الاعتمادية المتبادلة يجري اختصارها عادة بـ "معادلة الأمن مقابل النفط". لكن هذه المعادلة تعرّضت لتغيرات جوهرية في الآونة الأخيرة، فالولايات المتحدة التي كانت تقود قاطرة النمو في العالم طوال فترة الحرب الباردة، وكانت من ثم أكبر مستورد لنفط المنطقة، غدت، بفضل تقنية إنتاج النفط والغاز الصخري، أكبر منتج للطاقة في العالم. وغدا أكثر إنتاج دول مجلس التعاون من النفط والغاز (نحو 90%) يذهب إلى شرق آسيا، والأسواق الناشئة التي باتت هي من يقود قاطرة النمو في العالم. التغير في خريطة الطاقة الدولية إنتاجا واستهلاكا لم يواكبه تغير في نظرة دول الخليج إلى أميركا، باعتبارها مصدرا للحماية، إذ ظلت دول الخليج تعتمد أمنيا على أميركا، في حين أن مصالحها الاقتصادية الكبرى غدت مع آسيا.
من المهم أن تأخذ دول الخليج العربية هذه الصورة المتناقضة في الاعتبار، عندما تخطط لأمنها، وأن تحاول الإجابة عن سؤالين رئيسين: الأول، لماذا لا ينعكس الإنفاق الكبير على الدفاع، وامتلاك أفضل تقنيات الأسلحة في العالم قوةً على الأرض ونتائج في السياسة؟ والثاني: كيف يستقيم الاستمرار في الاعتماد أمنيا على واشنطن مع تغير خارطة المصالح، وانتقال مركز الثقل في الاقتصاد العالمي نحو آسيا؟