الشارع الطويل

30 يناير 2019

(ضياء العزاوي)

+ الخط -
كم مرةً مررنا من شارع حفظنا معالمه، أو حفظنا بدايته ونهايته، ونحن لا نعرف المعالم بالتفصيل. فقط نمرُّ فيه، لأننا نريد أن نعبره لكي نصل إلى وجهتنا. ولذلك فلا نمعن النظر، ولا ندقّق في الحجارة والبشر، ولا في السماء التي تعلوه، فقط نعبره كل يوم، وربما أكثر من مرة في اليوم. هذا بالنسبة لمن يمر فيه ذهاباً وإيابا من العمل مثلا. يحدث هذا الفعل بحكم العادة، ومن دون إرادة. فقط أنت تضع نفسك في أوله لتجد نفسك في نهايته. ولكن هل فكّرت مرة بتغيير الشارع الطويل الذي عرفك، ولم تعرفه؟ 
هل اكتشفت متأخرا أنك تتحرّك داخل دائرة حياتك بطريقة "أوتوماتيكية"، كأنك تشبه اللعبة التي كنا نشتريها لأطفالنا صغارا، وكانت تتحرّك حين نلفُّ مسمارا صغيرا في مؤخرتها إلى أقصى حد، ثم نتركها على أرضٍ ملساء صلبة، فتلف في المكان كله حتى يعود المسمار الصغير الخفي إلى مكانه، فتتوقف اللعبة، وتخفت بهجة الطفل بحركتها اللطيفة. وهكذا تبدو أنت بكل صراحة، فأنت تتحرّك داخل الدائرة نفسها حتى تفقد البهجة، وتفقد الشغف، وتكتشف أن حياتك روتين، ما هي إلا دائرة ضيقة من الإسمنت والأبواب والوجوه وأكواب الشاي وفناجين القهوة، ومطالب والتزامات تدور فيها على مدار الأربع والعشرين ساعة .
لو حاول الواحد منا أن يغيّر الطريق الذي يسلكه كل يوم راجلا أو راكبا، لوجد كل شيء مختلفا، حتى شرطي المرور الذي يقف وقفته الأبدية، ويحرّك يديه ويطلق صفارته، سوف تكتشف أنه رجلٌ من لحم ودم، وله شخصيةٌ تختلف عن ذلك الذي تركته في طريقك المعتاد، وأنت تمر به منذ سنواتٍ، بحيث أصبح لا يعني لك شيئا سوى أنه إشارة آدمية!
الشارع الطويل هو شارع حياتك الذي يجب أن تغيّره ذات يوم. يوم أن تعتاد كل شيء حولك، ويفقد مكتبك ومقعدك في دائرة عملك رونقهما وبهجتهما، ولهفتك عليهما، تخيّل الشارع الجديد الذي سيكون ذا روحٍ مختلفة، وطعمٍ مختلفٍ على روحك، وسيحفز عقلك على التفكير بأفكارٍ لم تخطر لك على بال، فسوف تتذكّر المشاريع التي نبتت في رأسك ولم تنفذها، وسوف تداعبك الأحلام التي دفنتها في وسادتك، وسوف تكتشف، في اختصار شديد، أنك كنت ميتا، وقد عدت إلى الحياة.
الشارع الطويل الذي كنت تقطعه يجب أن يتغيّر. أطلقْ قرارك اليوم، يجب أن يتغير بكتابٍ جديد تقرأه، وبتعرُّفك على شخصٍ جديد لا تربطك به مصلحة، ربما كان زبونا في مقهىً تتجاذب معه أطراف الحديث، ولا تنتظره ولا ينتظرك، وتتركان المقهى يحدّد لقاءكما القادم، هذه طريقةٌ سهلةٌ وتجربةٌ مبتكرةٌ سوف تجعلك أكثر قوةً وحريةً وتفاؤلا وإنسانيةً وإرادة.
في أحدث دراسة أميركية عن مسببات الزهايمر أن الإنسان لا يضيف جديدا لحياته، فيتسرب الزهايمر لخلايا الدماغ، لأنها اعتادت على الموجود، ولم تعد تنشط بسبب ما يدخل إليها فينعشها، فما الذي ينعش خلايا الدماغ، ويحميها من التهام بعضها أو الموت، مسببة فقدان الذاكرة المبكّر، أو المتأخر، علامةً من علامات تقدّم السن. الجواب هو تغيير الشارع الذي تسير فيه، شارع حياتك بالتأكيد. ولذلك ذهب علماء أيضا إلى أن قراءة القرآن بتدبّر تقي من الزهايمر، ويُقصد بالتدبّر هو التمعن في كل حرف، وفي كل كلمة، ولا يحدث ذلك بالمرور مرور الكرام على الآيات والسور والصفحات، بل الاكتشاف في كل مرة. وفي فضل التعلم، يقول عمر بن عبد العزيز ناصحاً: "إن استطعت فكن عالما، فإن لم تستطع فكن متعلما".
في تجربةٍ جديدةٍ لي، صادقت امرأة بسيطة. صرت أنحني نحو بضاعتها المعروضة في الشارع، وأتجاذب معها حديثا سرعان ما تقطعه السيارات المسرعة. وفي كل مرة أعود إليها لأسألها عن حالها فتشكر وتحمد. وأفعل مثلها فعلا. أشعر أنها بطاريتي التي تشحنني، وأنا أمرُّ وقد استنفدت طاقتي في الشارع الطويل.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.