تحدّي العشر سنين

23 يناير 2019

(Getty)

+ الخط -
من "التقليعات" التي لا تزال تمارسها مواقع التواصل الاجتماعي، انتشر تطبيق جديد على موقع فيسبوك، يطلب من المشترك أن ينشر صورته اليوم وصورته قبل عشر سنوات، فانتشرت حمّى نشر الصور، وشهقنا وفغرنا أفواهنا ونحن نهتف: سبحان من يغيّر ولا يتغيّر، وفركنا أعيننا بالتأكيد لنتأكد أن الصورتين المنشورتين هما للشخص نفسه، لأن الفرق كان شاسعا، وحرص الجميع على عدم نشر صورةٍ بحيث تكون أقل حالا، أو أسوأ طلةً من قبل، بل العكس، فالجميع سواء النساء أو الرجال قد تغيروا إلى الأفضل، حتى أن رجالا أطلوا صلعان بوسامة، والنساء اللواتي أصبحن جدّات في الواقع بدون صغيراتٍ منطلقاتٍ متأنقات.
منذ انتشر التطبيق، وأنا ما زلت على الحال نفسه من حيث الدهشة وعدم التصديق، وتقليب الحسابات الشخصية للأصدقاء والصديقات، والدخول إلى صفحات المشاهير، وحتى الرؤساء والزعماء، وقد وجدت نفسي أنجرّ وراء هذه التقليعة، وأبحث في ألبوم صوري عن صورةٍ منذ عشر سنين بالتحديد، ولكني وجدت صورةً مؤلمة، صورتي وأنا أستند إلى كتف أمي وأضحك، فالابتسامة التي كانت على وجهي في تلك الصورة تحمل الأمان والغرور بالحياة التي أوهمتني أن كتف أمي ستبقى، وقلبها سيبقى مفتوحا لي إلى الأبد.
أغلقت الألبوم، وعدت أتصفح الصور المنشورة، والحمّى تستعر بين رواد "فيسبوك". وحاولت أن أقنع نفسي أن الجميع سعداء، وأن الجميع هؤلاء قد نجحوا وحققوا كل ما يتمنون ويحلمون، ولم يُخفقوا ولم ينهزموا، إيمانا مني بمبدأ أن الجسم مرآة النفس، وأن ما يعتمل فيها يظهر على الجسد، ونسيت أن هناك الفلترات والمحسّنات التي تستطيع أن تخفي هذا كله، وتظهر ما يودّ أن يظهره الشخص للآخرين، فماذا لو انتشر تطبيقٌ آخر يسأل من خلاله مشترك مواقع السوشيال ميديا المختلفة: ماذا حدث لروحك خلال عشر سنين؟ هل كان المشترك سيسارع إلى أن يكتب عن الشغف الذي ضاع، الشغف بأشياء بسيطة كانت تجلب السعادة، النظر الذي كان يطيله ليتأمل وردةً نمت بجوار حائط، عن الرغبات التي تلاشت، وعن الاكتفاء بواقعٍ أليم خوفا من واقع أكثر ألما. والسؤال الذي سيعجز عنه كثيرون: هل حافظوا على الطفل في دواخلهم، على الرغم من التجاعيد، وعلامات الزمن التي لا تستثني أحدا؟
قليلة كانت الصور الموجعة التي نشرت انجرارا وراء تحدّي العشر سنين، صورهم اليوم مع مقاعد فارغة، وأذرع تحتضن الهواء، وأماكن مهجورة، والأكثر فزعا كانت صور الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، والتي نشرها ذووهم، والمقارنة بين صورةٍ لك وأنت تنعم بالحرية وبين أهلك، وصورةٍ أخرى في زنزانةٍ لا تدع مجالا واحدا لعقدها، لأن الصور كلها مؤلمة. وحسبما أدلى أحد المعتقلين بتعليقه إنك لو دخلت السجن بجرحٍ صغير في ظفرك، فسوف يتحول إلى عشرات الأمراض التي ستنال من صحتك وعافيتك وبهاء وجهك، سوف تخبو ضحكتك بالطبع، وسوف تبدو أكبر من سنك بكثير، حين يتساقط شعر الرأس، ويشيب ما تبقى منه، وحتى اللحية والشارب سيعلنان أنك صرت كهلا ، فلماذا سار الجميع خلف هذا التطبيق الموجع، ولم يفكّروا بآلام الآخرين، وفاقدي كل معاني الحياة وهم أحياء لفقدهم حريتهم أو أحبتهم.
ومن خلال تحدّي السنين العشر، من السهل أن تبدو النساء خصوصا أجمل وأكثر نحافة وبالغات الأناقة. ولكن لم تكتب واحدةٌ مثلا أن قلبها مثخنٌ بالجراح، أنها مصدومةٌ من العالم الذي ينظر إليها كأنها كتلة من الصلصال، يعتصرها بيديه ويعيد تشكيلها. لماذا لم تكتب واحدة أنها قبل عشر سنين كانت ساذجةً، وأصبحت اليوم حمقاء؟ هذه الأسئلة عن عقد من الزمان مر في حياة امرأة عادية مثل باقي النساء تعني أنها لم تخرج من عنق الزجاجة، وأنها تُكابر، أنها مبهورةٌ بالعالم إلى درجة أن تنشر صورها اليوم وفي الماضي، وهي تصدق نفسها.. ما أبشع الحياة، ونحن النساء نكذب على أنفسنا، لأن لكل صورةٍ جميلةٍ ثمناً كبيرا.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.