باب الحارة اللندنية

26 سبتمبر 2018

منزل في لندن (7/1/2010/Getty)

+ الخط -
لا أسوار عالية للبيوت في لندن، ولا بوابات تطاولها، لتحجب شجرها وأزهارها عن عيون عابري السبيل. أُطِلُّ من نافذة الشقة التي أقطنها مؤقتاً، في أحد الأحياء ذات الطراز المعماري الفيكتوري غربي العاصمة البريطانية، فألحظ لمرةٍ هي الأولى، على الرغم من زياراتي السابقة هذي البلاد وغيرها من بلدان القارة الأوروبية، كيف صيغت العلاقة الهندسية بين الباحة الأمامية للمبنى السكني والشارع العريض المحاذي، بأسلوبٍ يدمجهما معاً، ليظهرا كأنهما حيزٌ واحد، أو حيزان متعانقان.
في المشهد الآسر، سترى ارتفاع سور المنزل يبلغ بالكاد متراً واحداً، وفي وسطه، أو على أحد جانبيه، فتحة واسعة بعرضٍ يقارب ثلاثة أمتار، وما من بابٍ فيها ليُفتَح ويُغلق، بل إن بعض العمائر يخلو تماماً من أي سياجٍ بسيط، يمكنه أن يحمي حشائش الأرض في "حرم المنزل" من روث كلابٍ مدللةٍ تذرع الشوارع بصحبة مالكيها بكرة وعشياً.
لكن، وبعكس انفتاح الباحات الأمامية على الفضاء العام، يخصّ البريطانيون مباني بيوتهم بأبواب خارجية شديدة المتانة، متعدّدة الأقفال، وذاك تناقضٌ يجعل من غير اليسير على غريبٍ مثلي أن يُشبع فضوله إلى فهم الدلالات الأنثروبولوجية الثقافية لفنونهم المعمارية، سيما حين يكتشف أيضاً أن حديقة البيت الإنكليزي تقع غالباً وراءه، لا عند مدخله، ويخفيها المبنى عن كل مخلوقٍ سوى الطير.
نحن منفتحون على الآخرين، تقول لك العمارة الفيكتورية، إذن، بالنيابة عن سكّانها المتوارين بشؤونهم خلف أبوابٍ محكمة الإغلاق. ومثل هذا الانطباع تكاد تراه مُجَسدَاً على نحو شديد الوضوح، حين تشاهدهم/هن بأرديةٍ تكشف أكثر مما تستر، ويَلْقَونك بابتساماتٍ متكلفةٍ وعبارات تهذيبٍ روتينيةٍ مكرّرة، تشبه مداخل بيوتهم في تكوينها الأخّاذ الرتيب، كما في استعصائها على محاولتك، إن حاولت، سبر غورها، وما قد يضمر أصحابها، مهما طال أمدُ عشرتك لهم، على ما قال لي صديقٌ صَاهَرَهُم، وقضى نصف عمره في بلادهم.
أما ما قد يدهش حقاً في قصة نشوء هذا الطراز المعماري الذي ظهر في بريطانيا، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وانتشر في أميركا وكندا وأستراليا، فقول مصادر تاريخية إنه كان حاصلَ مزجٍ بين فنون عمارة منتقاةٍ من التراث الإنكليزي نفسه، وأساليب من الشرق الأوسط، وتأثيرات من آسيا.
سيصعب على عابرٍ ليس مختصاً في فن العمارة طبعاً، وقد مرّت قرابة مائة وعشرين سنة على نهاية العصر الفيكتوري، أن يعثر على الملامح الشرق أوسطية في الإرث المعماري المنتشر، لا يزال، على امتداد مساحاتٍ شاسعةٍ من لندن، وأغلب الظن أن تلك مزاعم تنطوي على مبالغةٍ ما في تصوير اقتباس الإنكليز نقوشاً زخرفيةً كان يستخدمها العرب والفُرس والأتراك، لتزيين مساكنهم ودور عبادتهم. فالعمارة الشامية القديمة، مثلاً، وهي نموذج حي على العمارة الشرق أوسطية، تختلف، في تكوينها ودلالاتها الحضارية، إلى حد التناقض، عن العمارة الفيكتورية.. هناك، أي في دمشق، كما في حواضر أخرى من المشرق العربي، تضيق الشوارع العتيقة بشكلٍ مذهل، فتتقارب البيوت بجدرانها العالية، وتصير نوافذُ أدوارها العليا وسائلَ اتصالٍ بين "حريم" المجتمع، عبرها يتبادلْن أخبار الحارة همساً، من فوق رؤوس المارّة، مثلما يتبادلن صحون الطعام، بمجرّد مدّ الأذرع، وخلف كلٍّ منهن دارٌ ينفتح فناؤها على السماء، وفيها من الرحابة ما يتسع لكل من يطرق بابها الخشبي البسيط.
أهي البيئة تصوغ ناسها على شاكلتها، فتمنحهم برود ثلجها وغموض غاباتها في بقعةٍ جغرافية، ودفء شمسها وشفافية فضائها في بقعة أخرى، أم تُراه الإنسان يعيد تشكيل المكان بما يلائم سلوكه؟ الاثنان معاً، قد يقول قائل، قبل أن ينتبه إلى مآل مُحَيّر صارت فيه أرض الصقيع ملجأ للفارّين من مدن الشمس، وقبل أن أنتبه، متأخراً، إلى أني سأخيّب ربما ظن صديقي، مؤيد الديب، الذي توقع مقالتي عن لندن، وسيجدني أدلف منها إلى دمشق.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني