إبداعات لا تنسى

20 يوليو 2018
+ الخط -
ونحن محاطون بتقنيات التكنولوجيا الرقمية الفائضة، ليس بتطوراتها المتوالية فحسب، بل بما يمرّر عبرها من إبداعات كثيرة يومياً، وفي كل ساعة، من فيديوهات وأفلام وأغان وقراءات شعرية، علاوة على صحف ومجلات إلكترونية، بعضها لا يميز بين الطالح والصالح، بين الناضج والضعيف، فصار الكل يكتب، والكل ينتج، والكل يغني ويمسرح، الكل يكتب وفق مجال أو أكثر، ليس لأنه مقتنع بما يفعل، بل لأن المجال مفتوح، فلماذا لا يجرب دخول الميادين والانخراط في الإبداع، ساعيا إلى الشهرة، وقد يحققها في زمن نعلي من شأن هذا أو ذاك، ليس استحقاقا، وإنما وفق هوانا وعلاقتنا به. ليس عيبا أن نجرّب ونتكوّن ونتدرب شيئا فشيئاً، ساعين إلى إنجاز مستوى جميل، يثري الإبداع ويجعله فاعلاً في النفوس والتربية والإصلاح الاجتماعي.
وعلى الرغم من كثرة الغث وانحسار السمين، فإنّ الإبداع المتين من حيث إنجازه وخبرة صاحبه يظل المفصل بين الباهت والجلي القوي، بين الإبداع الذي يعدّ بمثابة الكتابة على الرمال، وبين إبداع يعد بمثابة النقش على الحجر، يصمد أمام الزوابع والأمواج ليخلد، فيصير مشاهداً من كل الأجيال، ينتقل عبقه في كل مكان، حاملاً نيات صاحبه التي لا يمكن أن تكون سوى نيات إنسانية تستحق الخلود.
وللتوضيح أكثر، نقول إنّ كثيرا من الإبداعات المتساقطة علينا كالمطر، وليتها مطراً يسقي فينبث الجميل المثمر من النبات والشجر، لكنه مطر اصطناعي بلا مذاق ولا أثر، فلا يجعلك تتفاعل معه لِيُنْسى بسرعة، فهو يموت فور سقوطه لأنه يحمل بذور موته في ذاته.
أما الإبداعات الفاعلة فهي العطر المركز الذي يعطر القرب والبعد، ويدوم مفعوله، فلا ينقرض بانقراض الوقت الذي ينجز فيه، بل يستمر لأنه يحمل في نسيجه عوامل البقاء.
وهنا يطرح السؤال بصدد الحقيقة والسر الكفيل بجعل إبداعاً ما يستمر في الزمن والمكان حيا في النفوس عبر عدة أجيال؟
وللإجابة عن السؤال نلفت النظر إلى مبدعين، تمكنوا من تخليد أنفسهم بإبداعاتهم الرائعة والرائدة. كنا ونحن طلبة نردّد، كل حين، أغنيات مارسيل خليفة، لأنها لصيقة بقضية الشعب الفلسطيني المدافع عن أرضه وكرامته، وكبرنا وما زلنا نسمعها، فلا ننكر أهميتها وجمالها. كان عامل خلودها هو ارتباطها بقضية عربية إسلامية، وبشعب عانى ويعاني ويأبى الاستسلام والخضوع، لأنه مؤمن بوزن قضيته، ولأنه صادق في تحديه ومواصلته المقاومة، على الرغم من كلّ الضغوط.
وكنّا منذ الطفولة نردّد أغاني أم كلثوم وعبد الحليم وفريد الأطرش وغيرهم، ليس لأنها مرتبطة بقضية محدّدة، لكن أداءها أسند إلى موهوبين كافحوا في سبيل تطوير مواهبهم عبر السهر والاعتكاف على التدرّب والتمرّن بصبر وتحمّل، فصاروا مبدعين بالفعل، لا بالقوة، فعبّروا عن قضايا متعدّدة، وفي كل تعبير تجدهم متألقين يستحقون الشكر والتقدير، غنّوا عن الحب، وغنّوا عن قضايا عربية مختلفة، وفي مقدمتها الوطنية والتاريخ والانتصارات والانتكاسات.
وفي عصرنا، تجد تألق الأغنية الدينية على أيدي شباب تمكنوا من فرض أنفسهم وأسلوبهم في التعاطي مع المواضيع الدينية بشكل حداثي جميل، ومنهم سامي يوسف الذي نقش أغانيه وألحانه في نفوس الكبار والصغار في وقت وجيز.
لا يقتصر الأمر على الأغنية، وإنما يتجاوزها إلى كل الإبداعات، فهناك أفلام وأشعار وروايات ومسرحيات تنجز كي تموت بُعيْد ولادتها. وفي المقابل، نجد في كل فنّ من الفنون، الصامد الفارض لنفسه على الناشئة والكبار، لحمله قضية، ولكونه تمّ عبر فنان متكوّن خبير بقضايا الإبداع من حيث وسائلها ومضامينها.
وانطلاقا مما سبق، نقر بالبقاء للصالح النافع والزوال للفاسد المفسد للأذواق، المبعد عن قضايا الشعوب وهمومها.
لحسن ملواني
لحسن ملواني
لحسن ملواني
كاتب مغربي. يعبّر عن نفسه بالقول "الإبداع حياة".
لحسن ملواني