"بيروت".. كل هذه الرداءة

"بيروت".. كل هذه الرداءة

29 يونيو 2018
+ الخط -
تختطف مليشيا التحرير الإسلامية في لبنان، أسابيعَ قبل الاجتياح الإسرائيلي في 1982، موظفاً أميركيا رفيعاً في بيروت، ثم يطلب زعيم الخاطفين، اللاجئ الفلسطيني، أميركيا آخر عمل دبلوماسيا في بيروت قبل أن يغادرها في 1972، للتفاوض معه، والمقايضة بين شقيقه الفدائي، المحتجز كما يظن لدى إسرائيل، والأميركي المخطوف، فتبتعث "سي آي إيه" إلى بيروت، من أجل هذا الغرض، ذلك الدبلوماسي القديم، النابه والمواظب على شرب الكحول، والذي قُتلت زوجته الفرنسية قبل عشر سنوات، في اعتداءٍ مسلحٍ على منزله في العاصمة اللبنانية، ارتكبته مجموعةٌ فلسطينية، بقيادة من سيصير هو المحتجز موضوع المقايضة، فيما شقيقُه، زعيم خاطفي الأميركي، كان لحظة ذلك الاعتداء طفلا يضمّه منزل ذلك الدبلوماسي المحبّ للعرب، بنيّة أن تتبنّاه الأسرة الأميركية،. .. تتوالى تفاصيل أخرى، فنعرف أن الفلسطيني المقايَض به محتجزٌ لدى مجموعةٍ تتبع منظمة التحرير، ينجح المفاوض الوسيط، بمساعدة شابةٍ أميركيةٍ حسناء، بارعةٍ في استخدام المسدسات والتهديد بها، جسورةٍ بين خرائب بيروت وأحيائها التعيسة، في استدراج هذه المجموعة الفلسطينية إلى مبادلة الأميركي المخطوف بالفلسطيني المحتجز مقابل أربعة ملايين دولار، ثم تنتهي القصة بإتقان عملية تسلّم الأميركي، ولكن مع قتل هذا الفلسطيني، وعدم تسليم ملايين الدولارات هذه. وفي الأثناء، نستمع إلى حديثٍ إسرائيليٍّ، مفعمٍ بالعواطف، عن عملياتٍ إرهابيةٍ ارتكبها الفلسطينيون ضد مدنيين إسرائيليين.

هذا الإيجاز (كل إيجازٍ مخلٌّ غالبا) هو للقصة السمجة في الفيلم الرديء "بيروت"، للمخرج الأميركي براد أندرسون، وتم تصويره في طنجة (؟!) التي تحوّلت محطة القطار فيها إلى مطار بيروت مثلا، وشوهدت جِمالٌ تمرّ قريبا من شاطئها. وليس هذا السخفُ وحدَه ما ينكشف بيسرٍ لمُشاهد الفيلم الذي يعرض حاليا في عواصم عربية، وفي لبنان بعد أيام (أجيزت مشاهدتُه لمن فوق 16 عاما!)، وسبقته دعواتٌ إلى منعه أو مقاطعته، لما اشتمل عليه من مشاهد، قال وزير الثقافة اللبناني، غطاس خوري، محقّا، إنها تشوّه بيروت وصورتها، وذلك بعد أن ذاعت دقيقتان إعلانيتان لهذا الفيلم، المفاجئ من مخرجه الذي يضم أرشيفُه أفلاما متقدّمة فنيا وفكريا (امبراطورية الظلال، الميكانيكي، مثلا)، بل حُسب من معارضي السينما الهوليوودية، لكنه في السفاهةِ التي يصنعها في "بيروت" يُحرز موقعا لنفسه في أشدّ مواضع هذه السينما إسفافا، واستوطى، في ذلك، حيطان العرب، والفلسطينيين خصوصا، والذين يبدو أن مؤسساتهم، الرسمية والشعبية، لم تنتبه بعد إلى جسامة ما يشتمل عليه هذا الفيلم من تعريضٍ بهم، وافتئاتٍ عليهم، فلم يسبق لأيِّ مجموعةٍ فدائيةٍ فلسطينيةٍ، في بيروت، أن اختطفت أي دبلوماسي أجنبي، ولم يحدث في ذلك الطور اللبناني من سيرتهم الكفاحية أن اخترعوا مليشيا، من صنفٍ "إسلامي تحرّري" كما بدت في فيلم أندرسون، يقتل عنصرٌ فيها قائدَها بينما كان هذا يحاور، بشكلٍ مقرف، الدبلوماسي الأميركي القديم وزميلته الشقراء، فيسيل دمُه قدّامهما، فيتولى هذا الشاب فورا تزعم المجموعة، ويظهر ناكرا الجميل الإنساني الذي كان قد خصّه به مفاوضُه الوسيط الأميركي، إبّان كان ولدا غضّا، يحظى برعايةٍ في منزلٍ دافئ، بعيدا عن بؤس مخيمٍ للاجئين يسكن فيه. وليس هذا فقط، بل إنه، كما عموم الفلسطينيين في الفيلم المسفّ، بلا أي همٍّ وطنيٍّ، هو منشغلٌ بتحرير شقيقٍ له، ليس مأسورا لدى إسرائيل، البريئة من أي جنايةٍ على الفلسطينيين واللبنانيين، وإنما مخطوفٌ لدى مجموعةٍ فلسطينية، سيسْعَد ياسر عرفات بملايين الدولارات، عندما يتم بيعُه بها (هكذا!).
مقادير الرداءة كثيرةٌ في الفيلم الذي طبخ قصته التي تتوسّل التشويق، بفجاجةٍ ظاهرةٍ، كاتب أفلام الجاسوسية، جيسون بورن الذي أراد تظهير الأميركي الواثق دائما من نجاحه، السكّير النابه معا هذه المرة، وامرأة البوليس اليقظة، ثم لم يكترث بحقائق معلومة، فأراد أن يكون تفجير السفارة الأميركية في بيروت قبل أيامٍ من الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982، فيما هو بعده بشهور. أما أن واشنطن عملت على تفادي هذا الاجتياح، فهذه فريةٌ من بين أرطال التدليس في فيلمٍ مثقلٍ بدعائيةٍ مكشوفةٍ ضد الفلسطينيين. وكان الظن أن الإرهاب الراهن، والوفير بين ظهرانينا، قد صرف هوليوود عن "إرهابهم"، غير أن هذا الفيلم يُخبرنا بأن الأمر ليس كذلك، ولن يكون كذلك.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.