نكبة من نوع آخر

نكبة من نوع آخر

18 مايو 2018
+ الخط -
سبعون عاماً مرّت على النكبة الكبرى، نكبة إعلان دولة إسرائيل واحتلال فلسطين عام 1948، وتهجير الفلسطينيين وتدمير منازلهم وقراهم، ومحاولة اقتلاعهم من جذورهم. في ذكراها السبعين، جدّدت النكبة جراحها وجراحنا وجراح من عايشوها، وأعادت تذكيرنا (ومن ينسى!) بأن ما بدأته إسرائيل قبل سبعين عاماً لم يكن مجرّد احتلال مؤقت، أو استعمار زائل، وإنما مشروع إحلالي لدولةٍ وشعبٍ على أنقاض وطن لشعب آخر، تحكمه رؤية وتحرّكه مخططات وتنفذه استراتيجيات وأدوات.
اختلفت السياقات والظروف منذ ذلك الوقت، وتمدّدت إسرائيل شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وسقطت أنظمة عربية وقامت أخرى، وذهبت جمهورياتٌ وجاءت أخرى، وحال فلسطين والعرب من سيئ إلى أسوأ، إلى أن وصل أخيراً إلى مشاركة بعضهم في جريمة النكبة، ليس فقط بالصمت عليها وعلى ذكراها، وإنما بالاحتفال بها وتجريم من يخالف ذلك. فالصمت المطبق الذي يلف العواصم العربية (الكبرى!)، بحيث لم نشهد مظاهراتٍ، ولو رمزية للتضامن لإحياء ذكرى النكبة، وتذكير المجتمعات بكارثتها السياسية والإنسانية والتاريخية، يشي بأننا إزاء نكبةٍ من نوع آخر، هي نكبة التواطؤ في ذبح المسألة الفلسطينية، أو بالأحرى ما تبقى منها. لسنا فقط في "زمن متصدّع"، حسب إريك هوبزباوم، غابت فيه الهوية، وانهارت فيه ما كان يحلو لبعضهم أن يسمّيها "ثوابت عربية"، وإنما في "زمن متواطئ"، يقوم فيه بعض الساسة ومن يواليهم من مثقفين (؟!) وإعلاميين وكتّاب، ليس فقط بتبرير النكبة، ولوم الفلسطينيين عنها، (باستحضار تلك الحجة البليدة بشأن تفريط أهل فلسطين في أرضهم!!)، وإنما بالترحيب والاحتفال بقيام إسرائيل، واعتبار "القدس حقا لها"، وأن "المشكلة في الفلسطينيين الذين ضيّعوا فرص العيش بسلام مع إسرائيل"، بحسب أحدهم. ووصل الأمر إلى أن تحتفي إسرائيل بقيامها في أحد فنادق عاصمة عربية "كبرى!"، ويحضر احتفالها ثلة من المثقفين والإعلاميين ورجال الأعمال المصريين، وأن يكون الاحتفال علنياً، وذلك للمرة الأولى منذ قيامها قبل سبعين عاماً.
تلك هي النكبة الحقيقية التي تتجاوز التطبيع مع كيانٍ مغتصب ومحتل، ليس فقط بحكم الواقع الذي يحاول بعضهم إنكاره وتجميله، وإنما أيضا بحكم القوانين والقرارات الدولية التي تعتبر إسرائيل دولة احتلال خارجة عن الشرعية الدولية، وتصل إلى حد شرعنة هذا الاحتلال والاحتفاء به علناً وبدون خجل. وهي نكبةٌ لم تبدأ اليوم، وإنما نعيش معها منذ توقيع اتفاقات "السلام" مع إسرائيل قبل أربعة عقود، والتخلي عن حقوق الفلسطينيين المشروعة، والمعترف بها دولياً. حيث بتنا أمام جماعةٍ عربيةٍ متصهينة، تدافع عن إسرائيل وعن جرائمها بشكلٍ يدهش إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو.
نكبتنا هي فيمن كان يفترض فيهم أن يقوموا بتوعية مجتمعاتهم وشعوبهم بالظلم والقهر الذي يتعرّض له الفلسطينيون براً وبحراً وجواً، فإذا بهم يبرّرون حصارهم ومعاقبتهم. نكبتنا في نخبتنا التي لا يستحي بعض رموزها من الدفاع عن "يهودية القدس"، وأحقية الإسرائيليين بها، أو فيما وصفته وسائل الإعلام برجل أعمال سعودي خرج ليدافع عن "بني إسرائيل"، ويدعو الله "أن ينصرهم على عدوهم.. من الفلسطينيين" الذين، حسب زعمه "باعوا أرضهم، ثم نقضوا بيعهم، وخانوا المسلمين، وظاهروا عليهم، تحت راية المجوس، ثم قذفوا المسلمات، وبهتوا المسلمين، وقتلوا المسلمين بسورية، واستكبروا، فشتتهم واخذلهم وانصر بني إسرائيل عليهم". هذه هي النكبة والطامة الكبرى التي حلت ببلاد العرب والمسلمين، والتي لا تجد من ينقضها أو يحاول التبرؤ منها. بل لم يكن هؤلاء الساقطون أن يهذوا بهذه العبارات، من دون أن يكون مصرّحا لهم بذلك. فحرية الكلام غير موجودة، وغير معترف بها في السلطويات العربية، ولا يمكن لأحدٍ أن يفتح فمه في الشأن السياسي، إلا بإذنٍ من "ولي الأمر".

دلالات

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".