طلب من زياد عيتاني

04 مارس 2018
+ الخط -
بعد نشر تفاصيل مثيرة، ووقائع بالغة التشويق والغرابة والجاذبية، عن واقعة مقتل المغنية اللبنانية، سوزان تميم، في دبي صيف عام 2008، حيث تقاطع الجنس والمال والسلطة، وكثرت الطلاقات والزيجات، وكذا الهدايا الباهظة (حزام من الماس مثلا)، وتعدّدت شخوص القصة المسلية (والمحزنة في خاتمتها طبعا)، وقد توزّعوا في بيروت ولندن والقاهرة ودبي، بعد نشر ذلك كله، كتب الروائي المصري الراحل، محمد البساطي، إن تلك الوقائع روائية تحتاج دوستويفسكي لكتابتها. .. وبعد ذيوع التفاصيل المثيرة والعجيبة، والهوليوودية البالغة الدرامية، التي استجدّت في قضية الممثل اللبناني، زياد عيتاني، وإشهار براءته من التهمة المريعة، أي العمالة مع إسرائيل والتخابر معها، والطلب من اللبنانيين الاعتذار منه، ومع توقيف ضابط كانت قد أقيلت من موقعها في جهاز أمني، اسمها سوزان الحاج، اتهمت بأنها وراء فبركة محادثاتٍ فيسبوكيةٍ بين الممثل (النجم حاليا) وامرأة من المخابرات الإسرائيلية (الموساد) مختلقة، بدافع انتقام سوزان هذه من شخصٍ آخر، يعمل صحافيا اسمه زياد عيتاني أيضا. بعد ذيوع هذا كله (ترقبوا تفاصيل أشهى الأسبوع الجاري)، ليس في وسع قريحةٍ مثل التي حازها دوستويفسكي أن تقدر على كتابة روايةٍ تستوحي الوقائع الغريبة لإخفاء المنحوس، زياد عيتاني، في زنازين الأمن اللبناني، واستباحة شخصِه وسمعته، وابتذال صحافة النكاية والمرجلة في ممارستها النهش في لحم الرجل، من دون اعتبارٍ لبديهيّة أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. 

لا يقدر الكاتب الروسي الشهير على كتابة رواية زياد عيتاني التي ستتناسل فصولٌ أخرى لها في الأيام المقبلة (ستتنافس المواقع الإلكترونية بشأنها من أجل الترافيك)، لأنه كلاسيكيٌّ في أعماله البديعة، ولأن كتابته عميقةٌ بشأن جوانيات شخوص روايته ودواخلهم، ولأن مغامرته الإبداعية ذهبت كثيرا إلى المخيلة. لا تنفع عبقرية دوستويفسكي هنا، ففي متوالية زياد عيتاني، منذ الأسبوع الأخير في نوفمبر/ تشرين الثاني وإلى ما بدأ يتتابع بعد تغريدة الوزير نهاد المشنوق، مساء السبت الماضي، ثمّة أنفاسٌ هيتشكوكيةٌ كثيرة، وسُحُبٌ من غوايات بورخيس الملتبسة، وشيءٌ من أفلام كمال الشيخ، مع أرطالٍ من الواقعية السحرية عن "انتقام امرأة" (ليست الإحالة إلى فيلم مصري تجاري ركيك بهذا الاسم ضروريةً هنا)، وعن أجهزة معلوماتٍ ومخابراتٍ تتبع دولة كرتونية، لا يكفّ القائمون عليها عن الثرثرة من أجل بنائها عادلةً قوية.
لا ينفع دوستويفسكي هنا أبدا، فلم تتوفر عوالمه على مقادير من السخرية والتهكمية والهزل، فهذه لوازم شديدة الإلحاح عند المغامرة بكتابة عملٍ سردي (روائي أو مسرحي) عن نازلة زياد عيتاني. وربما ليس في مقدور مخيلة كارلوس فوينتيس أو خوليو كورتاثار أو غيرهما من أعلام الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية أن تجترح مشهد اتصال رئيس الجمهورية، ميشيل عون، هاتفيا بالوزير نهاد المشنوق لتهنئته على نجاته من تدبيرٍ إسرائيليٍّ لاغتياله، كان الممثل زياد عيتاني (وليس الصحافي!) يمضي فيه، كما جاء في "الداتا" والاعترافات والمحاضر، المنشورة والمسرّبة، وغير المنشورة وغير المسرّبة. وبعد حين، يتبيّن أن التدبير كان من نوعٍ آخر، صنعه قرصانٌ بارعٌ في التسلل إلى الحسابات الإلكترونية، بتخطيطٍ من سوزان الحاج (على ما نشر أخيرا). ما يعني إن الذين قالوا إن في الواقع كثيرا مما يتحدّى المخيلة صدقوا، وإن عادل إمام كان محقا لمّا قال مرةً إن حوادث في الواقع أكثر قدرةً منه على الإضحاك، وإن الكوميديا في أداء بعض السياسيين العرب أكثر إضحاكا مما يؤدّيه في المسرح والسينما.
وحده زياد عيتاني نفسُه الأقدر من غيره على كتابة الرواية، أو المسرحية، التي تجمع مقاطع القصة. وهذه إن كانت تشيع الاندهاش من وفرة ما فيها من عجائب وغرائب، فإنها قبل ذلك تثير أسىً وحزنا غزيريْن، لكثرة ما أزاحته من أغطيةٍ كاذبةٍ وزائفةٍ عن دولة البوليس الحمقاء الخربانة. زياد كاتب وصحافي ومسرحي، وموهوب، ما يسوّغ رهانا على إنجازه نصَّ التراجيديا المضحكة (كأنها الثنائية الضدّية التي حاضَرنا فيها كمال أبو ديب قبل عقود؟)، نصَّ الفضيحة اللبنانية في طورها الرثّ الراهن. هي دعوةٌ هنا إلى الكاتب والممثل، المجنيّ عليه، إلى أن يأخذ وقته الكافي للراحة، ثم استعادة مشاهد محنته الصعبة، ثم البدء بكتابة الرواية أو المسرحية .. ثم ننتظر، ثم نقرأ.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.