رحّالة الشقاء

01 يناير 2019
+ الخط -
يطفو الجسدُ فوق المياه الزرقاء، مستسلما متراخيا، مشرّعا على السماء، أو منقلبا نحو القاع. وفي الحالتين، الذراعان مفتوحتان كذراعي مصلوب. الذنبُ مجهولٌ، والعينان مطبقتان على عقود قحط وقهر. تطفو الأجساد كثيرةً، كثرةً وقحةً، مؤذيةً، لأنها كثرة الحسابات الضيقة واللامبالاة، فيما ينجو سماسرةُ الضفاف الأخرى والحياة الأفضل، بجيوبٍ ملآنة وضمائر صلبة. 
يرمي خفرُ السواحل صنّاراتهم وشباكهم إلى البحر يائسين، ويسحبون إلى الرمال عيونا جاحظة، وأفواها مُطبقة، وقبضات مجرّحة، وقلوبا جمّدها الخوف والبرد. يسحبون أجسادا صغيرةً طواها الموج، كما تُطوى الأوراق الضعيفة، وأخرى ممزّقةٌ، وقد عبث بها الموج. ولا يفهمون لمَ يأتيهم البحر بثماره الغريبة، ولمَ لمْ يجد هؤلاء الغرقى من يُفسح لهم، ويتيح لهم، ويبيح لهم، بعضا قليلا مما تُسمّى الحياة. هؤلاء الغرقى الغرباء، وإنْ ماتوا، لم يكونوا فعلا على قيد الحياة، يجيبهم سماسرة الضفاف الأخرى، وليس مواتهم المائيّ ذاك دليلا على كونهم أحياء. الأحرى أنهم كانوا أجسادا برسم الحياة، وأرواحا برسم حياةٍ ما تفتّحت فيهم قطّ، ولا تبرعمت، ولا راقَها أن تسكن عالمهم ذاك، لأنه من سوادٍ وشقاء.
عشرات الضحايا، احتسبت الأسماكُ. لا بل مئات الضحايا، ردّ الموج. وحده البحرُ بقي صامتا، مشيّدا مقابرَه للآلاف ممّن لا يُحتسبون في العادة، ولا يَحتسبون هم أنفسُهم أنفسَهم حتى. مقابر لعشرات الآلاف، بل لمئات الآلاف، والمساحة لا تني تتّسع وتغور، والقوارب المثقوبة تتزايد، ومرشّحو الموات لا يعبأون بمصائرهم الماثلة أمامهم كتماثيل من رخام، بل ها هم يرمون أجسادَهم في المياه الداكنة التي من قصدير وقطران، يتمسّكون بزعانف الموج، ويعانقون الخطر كما لو كان خشبة خلاص.
خُذني أيها الموج، رخيصا، منتهيا، على حافّة العالم، قبل الهاوية الأخيرة بقليل. اسحبني، أيها الموج، ولتفعل بي ما تشاء. لقد لفظتني الأرض، ورفضتني السماء، ولم يبق لي سواك مشرّعا ذراعيك لموتي الموبوء. بعتُ كلّ ما لدي، واستدنتُ من اليأس حبّة أملٍ وبصيصَ نور، ورميتُ نرد حياتي، وحيوات زوجتي وأبنائي وبناتي، ولم ألتفت إلى الخلف، فلا أثر لي هناك، ولا تركة، ولا حقل. جمعتُ أرواحنا في صرّةٍ سلّمتها لذاك الرجل الباسم ذي الوجه النحاسيّ. قال لا تخف، سأوصلك وإياهم إلى البرّ، وإذ تصل، ستبدأ ساعةُ الحياة بالدوران، وستأتي الأيامُ، تتبعها الساعاتُ والدقائقُ والثواني، في صفٍّ طويلٍ مترامٍ، لا نهاية له. في الضفّة الأخرى، سوف تُراكم أياما حقيقية، من لحمٍ ودمٍ وعظم، أياما من غذاء ونوم ودفءٍ وشعور بالأمان. لا تخف، أعطِني كل ما تملك، وسلّم نفسك للربّان.
جمعتُ أطفالي من حولي كالخراف، وأوثقتُهم إليّ بأربطةٍ متينة. إمّا أن نصل معا، أو لا نصل. نظرت زوجتي إليّ بشفاهٍ شقّقها الملحُ وعينين فارغتين دامعتين. فكّ أربطتهم قالت، لعلّ مِن بينهم مَن له حظّ آخر. أو على الأقلّ، اقسمهم اثنين. أنا الربّ هنا، وأنا من يعود له القرار، أجبتُها، وأنا مدركٌ أننا والحظ على عداء قديم، وأنهم، وإنْ نجوا، من دوني هالكون.
لفحنا الهواء البارد. صفعتنا المياه الباردة، مال بنا المركب وماد. اضطرب البحر. علا الموج. ارتفع الصراخ. يا الله. يا الله. لكن، ما هي إلا دقائق، حتى نزلت إلينا السماء. كانت عابسةً، مكفهرّة: إلى أين تهربون؟ ألا تدركون؟ ألم تدركوا بعد كل هذا المصاب؟ ثم أخذتني من يدي ورفعتني، لكني كنت باردا وثقيلا، مربوطا إلى أطفالي الصغار، فرفعتهم معي، مضطرةً، لعلمها أني لا أريد عنهم افتراقا.
وهكذا كان. ارتفعت أرواحنا معا، وبقيت أجسادُنا هناك، طافيةً على سطح المياه. وحدها، زوجتي المسكينة نجت. رفعها خفرُ السواحل من البحر، رموا عليها بطانيةً، ونقلوها حيث أودعوها علبةً كبيرةً، سطحُها من صفيح. سألوها عن اسمها، ومن تكون، ومن أين جاءت، وهل جاءت وحيدة، فيما هي صاغرة العينين، ولا تجيب. وإذ بقيت استمارتها بيضاء، دوّنوا عليها أنها فاقدة النطق من هول الصدمة، ولم يدوّنوا أن روحَها، هي الأخرى، انتهت غريقةً، طافيةً على المياه.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"