هذه الرواية الفاتنة

09 نوفمبر 2018
+ الخط -
لمّا باشر الشاب المصري، إبراهيم أحمد عيسى (34 عاما) كتابة روايته الرابعة "باري.. أنشودة سودان" (دار تويا للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017)، حدّث نفسَه إنه سيكتبُ روايةً لن يستطيع أحدٌ كتابتَها. وفي الوسع الزّعم، من دون أي احتراز، إن هذا الكاتب اللافت أنجز روايةً استثنائيةً، عالية القيمة، في بنائها وأجوائها وجوّانيات شخوصِها المتنوعة. وهنا، يحسن شكر جائزة كتارا للرواية العربية، فلولا فوز هذا النص، الفاتن، بواحدةٍ من جوائزها الخمس للرواية المنشورة، لما التفت شخصٌ، مثل صاحب هذه الكلمات، إلى هذا العمل الأدبي المتين، فالصحافة الثقافية العربية بليدةٌ وكسولةٌ، لم تكترث به، وكذا كتّاب النقد الذين نعرف. ويعود الأمر أيضا إلى عدم نشاط دار النشر وكاتب هذه الرواية، الثقيلة المستوى، في تسويقِها إعلاميا. وأيا يكن الحال، هذه دعوةٌ هنا إلى مطالعة "باري.. أنشودة سودان"، وإلى الاهتمام بها نقدا ودرْسا، بعد أن كرّمتها جائزة كتارا (60 ألف دولار)، ونبّهت إلى وجودها، وإلى موهبة كاتبها الذي يعمل في البرمجيات والحواسيب، فيما تدلّ روايتُه هذه، كما سابقاتُها الثلاث، على شغفه بقراءة التاريخ، وقدرتِه على التجوال في مناطق مهملةٍ في تاريخ المسلمين والعرب، وعلى استبصاره مضامين حضاريةً وثقافيةً منسيّةً في مواضع مهملةٍ في هذا التاريخ.

ما هذه باري، ومن هو سودان؟ هي مدينةٌ في جنوب إيطاليا، قامت فيها إمارةٌ إسلاميةٌ نحو خمسة وعشرين عاما في القرن التاسع الميلادي، تتابعَ فيها ثلاثة أمراء، آخرُهم سودان الماوري الذي حكم 14 عاما، قبل أن يُنهي تحالفٌ معادٍ، بقيادة الإمبراطور لودفيك الثاني، هذه الإمارة، بتدميرِها بعد حصارها أربع سنوات، ثم ذَبَح ناسها، ومنهم الأسرى، بمن فيهم الأطفال والنساء. .. يذهب إبراهيم أحمد عيسى إلى هناك، إلى سنوات السلطان سودان، ويصنع روايةً شائقةً، أوضح أن خمسةً بالمائة فيها حقيقيٌّ من التاريخ، فيما الباقي متخيّل، وأنه باستثناء شخصيتي سودان والبابا، فإن الشخصيات الأخرى (الكثيرة والغنيّة التفاصيل) متخيّلة. طافت الرواية على جغرافيا باري والمدن المجاورة، ونابولي، وعلى أجواء من عالميْن، مسلمٍ ومسيحي، وعلى حروبٍ غير قليلة، في واحدةٍ من أخرياتها "مات خلقٌ كثير، وتكوّمت الجثث، واختلطت الأبدان والرايات". وأنجز الكاتب، في هذا كله، عملا باهرا، سيما أنه أقام علاقةً حبٍّ بين السلطان سودان وفتاةٍ مسيحية، لمّا عالجه عمّها في ديارها، بعد أن أصيب في مواجهةٍ مع قُطّاع طرقٍ في رحلة صيد تبدأ منها الرواية، ثم في أزيد من ثلاثمائة صفحة، يقع القارئ في ورطةٍ بديعةٍ في استكشاف أجواء من ذلك المقطع من التاريخ الذي لم يحظ بإضاءاتٍ وافيةٍ عليه. وربما لولا كتابٌ لمؤرّخٍ إيطالي، وبعض ما ورد عند البلاذري، ومدوّناتٌ كتبها رهبانٌ في حينه، لما أمكن معرفة ما جرى في إمارة باري الإسلامية وما جاورها، وما أقامه الأمراء الثلاثة فيها، وما كان عليه سودان من فروسيةٍ.
أنفق إبراهيم أحمد عيسى جهدا خاصا وهو يتعرّف على ذلك الزمن، ليُنجز عمله اللافت هذا، والذي ينضاف، في المدوّنة الروائية العربية، إلى أعمالٍ غير قليلةٍ انصرفت إلى التاريخ، ونهضت على تخييلٍ يفيد من وقائع التاريخ، بشروط الإبداع، لا باستحقاقات التوثيق والتأريخ. وفي البال إن غوايةً كهذه، أي اشتباك التاريخي بالروائي، وتوازي المتخيّل مع الحادثة التاريخية، تعدُّ اختبارا مهما لإمكانات الرواية العربية الراهنة، عندما يكون تحدّيا يتوسّل الإمتاع، ويتوخّى بث مضامين متصلةٍ بالحاضر والمستقبل. وإذا كان أمين معلوف في "ليون الأفريقي" وصنع الله إبراهيم في "القبّعة والعمامة" ويوسف زيدان في "عزازيل" وأحمد رفيق عوض في "عكا والملوك" وسالم حمّيش في "هذا الأندلسي" ورشيد الضعيف في "معبد في بغداد" وإدوار الخراط في "أضلاع الصحراء"، إذا كان هؤلاء، وآخرون غيرهم، قد أنجزوا إضافاتٍ طيبةً في الرواية العربية على صعيد غواية التاريخ وجاذبيته للروائي المحترف، المتمكّن من أدواته، فإن إبراهيم أحمد عيسى نجح في العالم الذي أقامه في "باري.. أنشودة سودان" أيّما نجاح، ما يجعلُه بين أولئك الروائيين، بل في طليعتهم، سيّما وأن في قراءة روايته المثيرة إفادةً مؤكّدةً، في زمن حديثٍ مسهبٍ عن التطرّف، والتعصب، والعنف، وعن صدام الحضارات.. والتقائها أيضا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.