عندما تستقبل "النهضة" بورقيبة

28 مارس 2017
+ الخط -
خبر عادي جدا أن تحتفل حركة النهضة بذكرى استقلال تونس. لكن عندما توضع صورة الرئيس الحبيب بورقيبة بهذه المناسبة على أحد جدران مقرها المركزي، فهذا يشكل حدثا استثنائيا يحصل لأول مرة في تاريخ حزب إسلامي، تربى قادته وأنصاره، منذ لحظة التأسيس على إدانة هذا الرجل، والتشكيك في مساره ومسيرته، وفي خلفيته وأهدافه وإنجازاته. كيف لا، والحركة الإسلامية التونسية برّرت وجودها، باعتبارها الحاملة لمشروع مجتمعي مناقض للمشروع البورقيبي الذي طالما وصفه الإسلاميون بالمشروع التغريبي، والمعادي للهوية الإسلامية.
صحيحٌ أن صورة الرئيس المؤسس لدولة الاستقلال لم تتصدّر المشهد وحدها، كما يحصل عادة في مثل هذه المناسبة، وإنما سمح المسؤولون في حركة النهضة بوضعها مع صور لشخصيات أخرى، لعبت أدورا متعدّدة في تاريخ تونس الحديث، مثل عبد العزيز الثعالبي وصالح بن يوسف وبشيرة بن مراد وغيرهم، لكن العبرة ليست في تنويع المشهد، وإنما في إنهاء الحظر الذهني الذي مارسه الإسلاميون فترة لا تقل عن 45 عاما من القطيعة، وسحب الشرعية من هذا الرجل الذي كان، ولا يزال، يملأ الدنيا ويشغل الناس. ولم ينس التونسيون رفض رئيس حركة النهضة بعد الثورة مباشرة الترحم على روح الزعيم بورقيبة، وهو الموقف الذي دانه عموم المواطنين، ولم يجدوا له مبررا واحدا مقنعا.
تغيرت اليوم مياه كثيرة، وتحول المواقف بشكل جذري، على الرغم من أن المصالحة العميقة لم تتحقق بشكل كامل. لقد راجعت القيادة السياسية لحركة النهضة مواقف سابقة عديدة لها، حيث اعترفت بشرعية وثيقة استقلال البلاد، بعد أن كانت تشكك فيها، مثلما كان يفعل الموالون لصالح بن يوسف وعموم القوميين. ثم أقرّت الحركة بالدور التاريخي للدولة الوطنية، وبضرورة الدفاع عنها بكل قوة، ثم أضفت الشرعية على أهم إنجاز حقّقه بورقيبة، والذي تمثل في مجلة الأحوال الشخصية، والتي تبنتها الحركة بالكامل، ولم تجرؤ على التشكيك في أيٍّ من بنودها، بما في ذلك مسألة شرعية تبني الأطفال الذين يولدون بدون معرفة هوية الوالدين.
لم يكتف الغنوشي بالتأكيد على ضرورة طي صفحة الماضي، بحجة أن الثورة جبّت ما قبلها، بل ذهب إلى أكثر من ذلك، عندما دعا إلى جمع شمل العائلتين الدستورية والإسلامية من خلال المصالحة بين عبد العزيز الثعالبي، باعتباره ذلك الشيخ الزيتوني ذي البعد الإصلاحي والمؤسس للحزب الدستوري، والحبيب بورقيبة الذي قاد أهم انقسام حصل في تاريخ الحركة الدستورية.
لا يزال في تونس من يفسّر هذا الانقلاب الجذري في مواقف حركة النهضة من التراث البورقيبي بأنه وليد الإكراهات السياسية التي فرضها المنهج البراغماتي الذي اعتمدته الحركة، لضمان الاعتراف الداخلي والدولي بها. لكن، مع ذلك، فإن استدعاء بورقيبة ورفع صورته في مقرها الرسمي يعتبر، في ذاته، خطوة رمزية، يهدف أصحابها من ذلك إلى استكمال مسار التطبيع السياسي مع أبرز مكونات تونس الحديثة، فقيادة حركة النهضة تريد أن تؤكد للجميع أن خلافها الأيديولوجي مع بورقيبة والبورقيبية أصبح جزءاً من الماضي، وأن ما يهمها اليوم أن تقلل من الخصوم، وأن توسع من الأنصار، أو على الأقل تتجنب تأجيج المشاعر المضادة لها، وأن تخفف من حدة المعارك الأيديولوجية مع أعداء الأمس.
قد تكون حركة النهضة، وهي تقدم على هذه الخطوة، تقتدي بحزب العدالة والتنمية التركي الذي يتجنب نقد كمال أتاتورك، حتى لا يقع في المحظور، وتوجه له تهمة المس بأهم ثوابت تركيا العلمانية، لكن حركة النهضة، وهي تفعل ذلك، تفرض على قواعدها شرب نوع من الدواء المر، وتخضع كوادرها لممارسة تمرين مرهق، من نتائجه مسح جزء من الذاكرة التي تربوا عليها، عساهم بذلك يؤسّسون لذاكرة جديدة، تجعلهم مستعدين لتقمص شخصيةٍ حركيةٍ مغايرة لشخصيتهم السابقة. لكن، إلى أي مدىً يمكن لهذا التمرين الصعب ألا يخلف مضاعفات سلبيةٍ، من شأنها أن تهدّد وحدة الحركة، ولو بعد حين.