مذكّرات عبد الرحمن ياغي

26 مارس 2017
+ الخط -
أنجز المعلم الأستاذ، عبد الرحمن ياغي، قبل أكثر من عشر سنوات، مخطوط مذكّراته، وأودعه لدى الصديق، الباحث والناقد، إبراهيم أبو هشهش، وطلب نشر الكتاب بعد وفاته. .. هذا خبر طيب، ولا مدعاة للانشغال بالسبب الذي جعل الدكتور ياغي الذي انتقل إلى رحمته تعالى، الأسبوع الماضي، يحرص على عدم صدور مذكّراته في حياته، فإنها مجرّد رغبة خاصة، أو مزاج ذاتي يجدر احترامه، إذ لا يتضمّن المخطوط أسرارا حسّاسة تخصّ كاتبها، أو تتعلق بآخرين، على ما عرف صاحب هذه الكلمات من الدكتور أبو هشهش، أستاذ الأدب العربي في جامعة بير زيت، وأحد طلاب ياغي المخلصين (والنجيبين طبعاً). والأجدى من انشغالٍ بأمر كهذا هو دعوة أبناء الراحل إلى إصدار مخطوط المذكّرات في أقرب وقت، ليس فقط لأن جمهور فقيدهم، وفقيدنا، لا عدد له، من طلابه الذين درسوا عليه في الجامعة الأردنية، نحو ثلاثة عقود، ولا لأن قرّاءه في الأردن وفلسطين، وفي مطارح عديدة، كثيرون، وإنما أيضاً، إلى الأمرين وغيرهما، لأن مذكراتٍ شخصية، يكتبها عبد الرحمن ياغي، ستكون بالضرورة مقطعاً في سيرة اللجوء والاغتراب الفلسطينيين، قبيْل نكبة عام 1948 وبعدها، فضلا عن أنها سيرة نجاح في هذه الأثناء. مضافاً إلى المسألتين أنه كانت للكاتب المعروف فاعلية مشهودة في العمل العام، وكذا في المؤسسة الأكاديمية العربية، الأردنية منها، فهو واحدٌ من خمسة أساتذة مؤسسين لكلية الآداب في الجامعة الأردنية التي التحق بها الراحل في 1965، وظل فيها أستاذاً للأدب العربي حتى تقاعده، مع بلوغه السبعين في التسعينيات (شقيقه الراحل هاشم ياغي أحد الخمسة أيضاً) وثمّة فاعليته غير المنسية في تأسيس رابطة الكتاب الأردنيين في 1974، والتي ترأس هيئتها الإدارية غير مرة، وكانت إبّان حضوره الحيوي فيها من علامات النشاط الثقافي المستقل في الأردن.
كان عبد الرحمن ياغي حالةً أكثر منه ناقداً وباحثاً في الأدب، بمعنى أن الدور الشخصي الذي اضطلع بها أستاذاً غير تقليدي في صلاته بطلابه، في تحفيزه لهم على البحث والاطلاع على الجديد، في اعتناقه أفكاراً يساريّة النزوع، في بيئةٍ غير ديمقراطية، في تنزيله الأكاديميا من مرتفعاتها ومكاتب أساتذتها في الجامعات إلى حيث الناس والمجتمع، والصحافة اليومية، والعمل النقابي، منحازاً، في هذا كله وغيره إلى قيم المقاومة والاحتجاج والمعارضة، مخلصاً لفكرته التي واظب، بجهد عظيم، على نشرها وتعزيزها في المجال الثقافي العام في الأردن، وهي المتعلقة بالوظيفة الاجتماعية والسياسية للأدب. وكم كنا نغتبط في أوائل الثمانينيات، إبّان كنا طلاباً جامعيين، بالاستماع إلى محاضرات الدكتور ياغي في رابطة الكتاب في عمّان (وفرعها في إربد أيضاً)، عن غسّان كنفاني، الذي ما انفكّ يكتب ويتحدّث عنه، وكذا عن "الإيقاع الروائي" والأدب الملتزم، صدوراً عن خيار الواقعية في الأدب والنقد.
كتب إحسان عباس ومحمود السمرة سيرتيهما في "غربة الراعي" (1996)، و"إيقاع المدى" (2006)، وهما أكاديميان عتيدان في درس الأدب وتدريسه، وأستاذان جامعيان عريقان. في الكتابين (وهما مجرد مثالين هنا) إضاءاتٌ رائقة على مساحاتٍ زمنية واجتماعية وثقافية في فلسطين قبل النكبة، ثم اللجوء والاغتراب، منذ الولادة في قرية عين غزال قرب حيفا عند الراحل إحسان عباس (1920 – 2003)، ومنذ الولادة في قرية الطنطورة، قرب حيفا، عند السمرة أطال الله عمره (مواليد 1924). وفي السيرتين إفادةٌ عظيمة القيمة في التعرّف إلى تجربة جيل فلسطيني، انقطع للعلم، وللإخلاص في العمل الثقافي، وفي التعليم الجامعي، وطاف في الأرض، وكان له تأثيره على أجيال من الدارسين والمثقفين وأهل البحث والنقد. وينتسب عبد الرحمن ياغي إلى هذه السلالة الرفيعة الأثر، وفي مذكّراته التي لم نطالعها بعد حديثٌ ذاتي عن مدرسة المسميّة، قريته الأولى في فلسطين، ثم عن مدرسة المجدل، ثم الكلية العربية في القدس، ثم المدرسة الإبراهيمية في القدس، ثم الدراسة الجامعية في القاهرة، ثم الارتحال للعمل في ليبيا والكويت، ثم المقام معلماً واسماً بارزاً في الجامعة الأردنية، وصاحب مواقف وحضورٍ لا يُنسيان في جمهوريته العريضة، جيلا بعد جيل.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.