كفن جديد للحياة

23 مارس 2017
+ الخط -
كنا، أنا وأخوتي الخمسة، نجلس ليلاً، نشعل شمعة في قلوبنا، ننتظر أن يهطل المطر، ليأتي إلينا مسرعاً حاملاً في جعابه أملاً لنا، ولكنه حين كان يأتي خاوي اليدين واللسان، كنّا نطفئ الشمعة، وندفن الأمل في صدورنا، لنخلد إلى دوامة الأحلام. وهكذا كل يوم نعيد مشهدنا التراجيدي، ويعيده هو بالحبكة ذاتها، إلى أن تعلمنا أن نصغي لصحراء أيدينا، ونتسلّى بالصبار ننتزع أشواكه، شوكة شوكة، ليصير فاكهة "فاكهة الاحتضار".
لم يكن لدينا ساعة لنعلم الوقت، كنّا نمشي بلا هوادة، متطيّرين بالظلال، متكئين على أشعة القمر العرجاء.
ذات يوم، بدا لنا ظلّ القمر على هيئة رجل يحمل عصاه، يتجه نحونا، وفي يده حقيبة ما، مرتديا قبعة طويلة، ورأسه مرفوع وكأنه يغني أو يراقب. جلسنا نختلق الحكايات، متعلّقين بحبل الظل لنشنق الليل الطويل. قال أخي الأكبر إنه صاحب سيرك مشهور، ومروّض حيوانات خبير جاء ليلقي تحيته المسائية ويحملق في عيوننا ليعرف ما اقترفناه من خطيئة.
لحظتها، أغمضت عيوني، لا خوفا من العقاب، ولكنّني عرفت أنّ هناك من ينتظر ولو خطايانا.
قال لي أخي الأصغر يوماً إنّه يجب ألا ننتظر، علينا أن نفتح شراعنا، نتركه للريح، ونغطس في عمق البحر، علينا ألا ننتظر، فأخذ سيفه الصغير الذي كان يسمّى سكينا وطعن الانتظار في صميمه، فإذا به ينزف الأمل، حتى امتلأت الغرفة به وبدموعنا، فأخي كان شجاعاً أكثر مما كنّا نسميه انتحاراً، ونخشى أن نهمس به، لقد روّى دمه الظمأ والجفاف لدينا قليلاً.
تمنيت لو أمتلك تلك الشجاعة والأمل الذي سال، لكن صدري خاو متصدّع، يرن به صدى الوحدة، وذات يوم قرعه صوت ما، يشبه اللحن، صوت ثنائيات الحب الخصبة، لكنّني كنت قد أصبت بالصمم فلم أسمعها، ولما علمت بأنها هي، ركضت ورائها ألهث، أريد ماء، أريد أن أروي نبتتي.
لكنها كانت لا تعرف الانتظار فسبقتني كثيراً، وبقيت بصدر يابس ألهث أكثر، فماتت نبتتي أيضا، وعميتُ، وإذا بعابر يمرّ فيلقي فتيل سيجارته فوق نبتتي، فتشتعل .. لا أكترث.. اتركها..
الآن، أشم رائحة حرب تشتعل، ربّما هي في صدري، ربما خارجاً، أناس يصرخون وآخرون يتحدثون بخوف ويرتجفون، حناجرهم مشتعلة ومحترقة، قلت سأخبرهم بأنّها أمل جديد، لكنهم كانوا أكثر خوفاً من أن يصغوا، واستمرّ النزيف في وجوههم وفي صدري.
ثم حاولت أن أصرخ، مشيرة إلى وجهي الذي تبلدت ملامحه، وكان صراخي هادئاً جداً، حين وضع يده على فمي فارس يحكي أنّه كان أسيراً، فأخرسني وجعه حين كان جسده مضرجا بلغة المعتقلات والزنزانات، كان يحاول أن يفتح فمه بمقدار أكبر من فمي ليصرخ لكن كفّاً ما أوسع من وجهه الغاضب أسكته!
أسكته نحيب أم ثكلت أولادها وزوجها، ولا مأوى يلم شعثها ولا بيت، سوى جهنم الكوكب الأرضي، وحين جاءت تصرخ لتسمع صوتها، أخرستها أرقام القتلى والنازفين، وطفل صغير أحسّت بأنها تنتمي له فقد أنقذوه من تحت الركام وحيداً بلا مائدة، وحيداً بلا عائلة، وذرفوا عليه بعض الملح وصوّروه وألبسوه سحنة الراعي القديم ثم رموه في غابة، أذكر أنّها كانت تسمّى ميتماً، كفناً جديداً للحياة، سيكبر يوماً هذا الجسد الذي خبر الألم، ويتعلّم الصراخ بلهجة أعلى.
هذا الصراخ الذي يلقفه جوفي في كلّ مكان، يعود إلي دائماً ويدوي داخل هذا القاع المهترئ.
DF4553B9-428A-47EB-B5EE-E01EACB73301
DF4553B9-428A-47EB-B5EE-E01EACB73301
جنى بيطار (سورية)
جنى بيطار (سورية)