ما أظرفَ الأرمن

24 يوليو 2016

أرمن يحيون عيد الميلاد في كنيسة بحلب (6 يناير/2016/Getty)

+ الخط -

نحتفظ، نحن السوريين، لمواطنينا السوريين المتحدّرين من أصولٍ أرمينيةٍ، بذكرياتٍ جميلة، وبكثير من المودة. ومع أن وجود الدفعة الأولى من المهاجرين الأرمن في سورية مضى عليه نحو مئتي عام، ومضى على وجود الدفعة الثانية مئة عام، إلا أنهم ما زالوا يعيشون بحسّ الإنسان الغريب الذي يجدر به أن يَبقى لطيفاً مع الشعب الذي قَبِله ضيفاً عزيزاً في البداية، ثم جَنَّسَهُ ومنحه حقوق المواطَنة كاملة، غير منقوصة، والأهم: إيثار أهل البلد الأصليين إياهم بالمحبة والتقدير.

يشتغل الإنسان السوري ذو الأصل الأرمني، بشكل جدّي، طوال أيام الأسبوع، وحينما يكون مساء السبت، عشية عطلته الأسبوعية، تراه متنظفاً، متأنقاً، مقبلاً على الحياة، يسهر، ويتناول الأطعمة، ويرقص، ويكون مبسوطاً على الآخر، وفي صباح يوم الإثنين يتجه إلى عمله بنشاط.    

وبرأيي أن وجود الأرمن في مدينةٍ مُحَافِظةٍ وكبيرةٍ، وفيها فصل قوي بين الجنسين، مثل حلب، أمر بالغ الأهمية، فالشاب الحلبي حينما يخرج ليتمشّى، قاصداً "محطة بغداد"، أو "العزيزية"، أو "السليمانية"، يرى الفتيات الأرمنيات بثيابٍ أنيقة، ومن دون غطاء رأس، ويرى العائلة الأرمنية جالسةً، عصراً، على الشرفة، بثيابٍ بسيطة، ونساءَهم من دون أحجبة، فيفهم، ويستوعب أن في الحياة نمطاً آخر، غير النمط الخاص به، ويزداد احترامُه فكرة التحرّر، حينما يلاحظ أن هذا الخروج السافر للمرأة ليس دليلَ ميوعة أو (فَلَتَان)، وإنما هو ممارسةٌ بسيطةٌ للحرية الشخصية في المجتمع.

يمتاز الأرمني عن سواه بشيء آخر، هو النشاط، والإصرار على التحصيل، فعدا عن الأطباء الأرمن المشاهير، مثل فريشو وكيورك ماردكيان، هناك موسيقيون كبار، كنوري إسكندر، وثمة صاغةُ ذهب بارعون، وأناس يتابعون أخبار البورصات العالمية على الرغم من أنه لا توجد في سورية بورصة.

واشتهر هؤلاء القوم، على نحو خاص، بتصليح السيارات، وصناعة الهياكل، والتصويج، وقد ساد في المنطقة كلها (أقصد مدينة حلب وأرياف حلب وإدلب والرقة) رأيٌ يجزم بأن أي قطعة تبديل لأية سيارة أو آلية، إذا لم تعثر لأجلها على قطعة مستورَدة، تستطيع أن تذهب إلى السليمانية، حيث توجد أجهزة الخراطة والتسوية في محلات الأرمن، ليسكبوا لك قطعةً تشبهها تماماً، وتقوم مقامَها في العمل جيداً، وهناك حقيقة أخرى مفادُها بأن حافلة الركاب المستوردة تأتي، وهي كابين، وصاج مسطح، ودواليب، فقط، يستلمها الأرمن، ويشرعون ببنائها حتى تصبح حافلةً مكتملة، بطابق واحد، أو بطابقين، حسب طلب الزبون.

كان صديقي محمد نور قطيع مولعاً بالتعامل مع أصحاب المهن الحرّة من الأرمن دون غيرهم... ولما سألته عن سر ذلك، قال لي: لا أدري ما هو السبب، تحديداً، لكنني وجدتُ عند الشعب الأرمني ذلك الإقبالَ على الحياة الذي يدعو إلى التفاؤل. وإذا كنتَ تريد إثباتاً على صحة فكرتي، سأحكي لك حكايتين منفصلتين. الأولى أنني مرضتُ، وأنا في الخامسة والأربعين من عمري، بداء السكري، ثم تعرّضتُ لاحتشاء في العضلة القلبية. اضطرّني المرض إلى تمضية ما لا يقل عن ستة أشهر بين عيادات الأطباء والمشافي ومخابر التصوير والتحليل. وفي هذه الأثناء، التقاني ابن بلدنا "أبو أيوب"، فقال لي بطريقةٍ مهولة: ما لي أرى وجهك مخطوفاً مصفرّاً وكأنك تنتظر ليلة الجمعة لتموت على الإيمان؟... ولم أستطع أن أسمع تتمة كلامه إذ أغمي عليّ من شدة الرعب.

الحكاية الثانية حدثتْ بعد عشرين سنة، وأنا في الخامسة والستين، ذهبت إلى الخياط الأرمني "قرة بيت" في حلب، لأخيط قميصاً، وقلت له من باب الدعابة إن هذا آخر قميص لي في هذه الدنيا، وبعده سأموت. فغضب قرة بيت، وقال لي بلهجته التي يختلط فيها التذكير بالتأنيث:

- لا خيتو، بدك تعيشي. أنا وإنتي ما عملنا غَلَبة لأحد. بدنا نعيش خيتو. لازم نعيش.      
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...