عذاب الرفيق سالم

15 يونيو 2016

الرفيق سالم.. هو الاسم الحركي لفرج الله الحلو

+ الخط -

اشتُهرت "رسالة الرفيق سالم" شهرة كبيرة في الأوساط الشيوعية في سورية ولبنان حين أُذيعت، أول مرة، في سنة 1952. والرفيق سالم هو الاسم الحركي لفرج الله الحلو الذي مات في أحد سجون دمشق في سنة 1959، إبّان عهد الوحدة المصرية – السورية. وكثيراً ما كنتُ أعود إلى قراءة هذه الرسالة، كلما فكّرت في الطرائق الستالينية لعمل الشيوعيين العرب آنذاك. فقد بُنيت الأحزاب الشيوعية ذات الطراز اللينيني على غرار الكنائس الروسية في التراتبية والطاعة والاعتراف. والاعتراف إنما هو التسمية الأقدم لفكرة "النقد الذاتي". وفي "رسالة الرفيق سالم" قَدْر لا يُحتمل من تبكيت الضمير وتعنيف الذات وتحقير الشخصية والاعتراف بالخطايا. فالرفيق سالم لا ينفكّ، في تلك الرسالة، متحدثاً عن "أخطائه وانحرافاته وضيق أفقه، وعن عيوبه وعجزه وغروره وتقصيره وخداعه وانغماسه في الانتهازية"، وهو يلوم نفسَه لأن "الحقد الطبقي ذهب من قلبه، ولأنه صار درعاً للعناصر الانتهازية، ومَفْسدة للعناصر الثورية، ولأنه انزلق إلى الميول الكوسموبوليتية التي هي إحدى وسائل الاستعمار". ولا يتردّد فرج الله الحلو في الكلام على "مواقفه المخزية"، لأنه تجرأ على إبداء الأسف لموافقة الاتحاد السوفياتي على قرار التقسيم في سنة 1947. 
لم أقرأ نصاً يحتوي هذا القدر من الاسترحام والترجّي وطلب المغفرة واحتقار الذات مثل هذا النص المؤلم. وكثيراً ما استغربت تلك اللغة الموشومة بالوجع، وتساءلت: لماذا كتب فرج الله الحلو هذه الرسالة التي لا تُكتب إلا في غمرة الهلع في زنازين المخابرات؟ فقد كان في إمكانه أن يستقيل من الحزب مثلاً، ويمضي في سبيله، ويحفظ كرامته. لكن، لعل استقالته من الحزب كانت تعادل خروج الراهب من إيمانه، فلا تورِثه إلا الألم والمعاناة والاضطراب وفقدان الانتماء إلى جماعة، وهو ما يعني الموت. وكثيراً ما كنتُ أقارن مناقبية الشيوعيين الأوائل بما آلت إليه أحوال اللاحقين، فلا أكتشف إلا "الشقلبة" والانقلاب، حتى صارت صورة الشيوعي في إحدى المراحل على النحو التالي: يدخل إلى المقهى، فيضع جريدة لوموند على الطاولة، ثم يرمي مفاتيح سيارته بلا اكتراثٍ فوق الجريدة، ويجلس، ثم لا يلبث أن يُخرج علبة سجائر "الجيتان" الفرنسية من جيبه، ويطلب فنجاناً من القهوة المرّة ويشرع في قراءة الجريدة. أما هيئته فتكون كالتالي: شعر مهمل، ووجه مغمور بالعبوس الثوري، وكتفان منحنيتان قليلاً كأنهما تحملان هموم العالم، وشوارب دوغلاس، مثل توقيت الثامنة والثلث، وبنطلون جينز أزرق وحذاء كريب. وبهذه الهيئة، يبدو كأنه بورجوازي، مع أنه من أصولٍ فلاحيةٍ جبلية، وربما درس في باريس وعاد شيوعياً من العيار الماوي الذي استهوى أبناء المشرق العربي، إبّان غرام الفرنسيين بالعالم الثالث. ومعظم أفراد هذه الجماعات الماوية تحول إلى الاسلام في ما بعد. ففي لبنان، عاد ماويون كثيرون إلى طوائفهم. وفي سورية، تحالف بعض الشيوعيين مع "الإخوان المسلمين" بذريعة محاربة الاستبداد. وفي فلسطين، صاروا قادة للمنظمات غير الحكومية، خاضعين للجهات المانحة.
اليساريون الجدد في بلادنا، مثل الشيوعيين القدامى، كانوا دعاة ومروجي أفكار، ولم يكونوا مفكرين. وهؤلاء فشلوا في الإجابة عن التحديات الكثيرة في ميدان الفكر والسياسة، وعجزوا حتى عن تحليل أزمة الكساد العالمي (1929 – 1933) على سبيل المثال، وطفقوا يردّدون الكلام المتقادم على حتمية الأزمات ودوريتها في الرأسمالية، ولم يتمكّنوا من الوصول إلى خلاصاتٍ نظريةٍ محدثةٍ في شأن قدرة الرأسمالية على تجديد نفسها، ولماذا استطاع النظام الرأسمالي الاستمرار، في حين انهار النظام الاشتراكي. وأظن أن مَن جعل فرج الله الحلو يأكل أصابعه ندماً في رسالته المشهورة هو مَن ساهم في جعل مصير الشيوعيين على ما علمتم وأبصرتم.
دلالات