من أجل ولدي

18 فبراير 2015

فقد ساقه في عدوان 2014 في غزة (27 ديسمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

كانت ملامحها تشي بأنها جاءت إلى هذا المكان بآلية خالية من العزم على العمل بتوجيهات الطبيب. تأكدت من ذلك حين بدأت تتكلم، وهي تحاول الجلوس على المقعد الخشبي الطويل الذي تصطف فوقه المريضات، في انتظار الدخول إلى غرفة الطبيب الأجنبي الذي وصل إلى غزة في وفد أطباء أجانب لمعاينة حالات صعبة، حجزت مواعيدها منذ أشهر، فقد قالت إنها سوف تسمع منه الكلام نفسه بأن عليها إجراء عملية جراحية عاجلة، وإلا سوف تصاب بالشلل، في عامين على الأكثر، ولولا أن زوجها حجز لها الموعد من دون علمها ما كانت ستلتزم بالحضور إلى هنا.
ازدردت ريقها، وتابعت حديثها، إذ يتحدث المرضى غالباً عن أوجاع مشتركة، وتنشأ بينهم ألفة سريعة، تطلق ألسنتهم للبوح: لا يهمني ما ألمّ بي من مرض بسبب رعايتي لابني الأكبر فهو فقد ساقيه خلال عدوان عام 2012، فأصبحت أنام في غرفته، ويناديني متى احتاجني، وأساعده في كل أمور حياته، مهما صغرت. ولا أستطيع أن أتركه ساعة. وفي العدوان أخيراً، أصيب ابني الثاني، وهو ابن سبعة أعوام، وفقد يده وقدمه، وأصبح لدي في بيتي اثنان من المعاقين، يحتاجان رعاية مستمرة، فلا يتوقفان عن ترديد كلمة "أمي"، ويخرج أبوهما إلى العمل فجراً، ويعود منهكاً في المساء، فأشفق عليه أن يقوم على خدمتهما ليلاً، فتفاقم مرضي، ولكني لا أستطيع أن أجري عملية جراحية، تلزمني المكوث فترة في المشفى، وعدة أشهر في الفراش.
لا تجد ما ترد به أمام تضحيات هذه الأم، فهي، كغيرها من أمهات المعاقين في غزة، فإذا كان العدوان على غزة قد أدى إلى استشهاد 500 طفل، فإنه خلّف ثلاثة آلاف جريح من الأطفال، وقدر عدد الذين أصبحوا منهم يعانون من إعاقات مختلفة بنحو 2500 طفل. وعلى ذلك، مثل هذا العدد من الأمهات أصبحن أسيرات أطفالهن، فيبذلن صحتهن وقواهن، لأن هؤلاء الأطفال صاروا عاجزين، ولا يجدون الرعاية الصحية والخدمات التعويضية المناسبة لمثل حالاتهم، غالباً بسبب سوء الأوضاع، وقلة المعونات التي تتلقاها المؤسسات المنوطة، في الواقع، بتقديم الدعم لهم.
وبحسب أحدث الإحصاءات، في غزة نحو 10500 معاق، منهم ما هو معاق خلقياً، لعدة أسباب، منها زواج الأقارب، ومنهم من تسبب له الاحتلال الإسرائيلي بإعاقة في الاعتداءات المتواصلة على القطاع المحاصر. وبذلك، نسبة ليست ضئيلة من العاجزين تعيش في هذه البقعة الصغيرة قياساً لعدد سكانها وسوء ظروفها المعيشية.
قبل سنوات، التقيتها في سوق الخضار في مخيم جباليا. كانت تلتقط حاجياتها على عجل، وخاطبت البائع بقولها: استعجل يا بني، أريد العودة إلى بناتي في المنزل، فاستغربت أن تكون امرأة في سنها، وأحسبها في السبعين، لديها بنات صغيرات يحتجن الرعاية. وحين ذهبت، علق البائع الذي يعرفها: كم هي بائسة هذه العجوز، مريضة بالسرطان، ولديها أربع بنات معاقات عقلياً وجسدياً، أصغرهن في أواخر العشرينيات وأكبرهن في نحو الأربعين. تعتني بهن وحدها، كما تعنى الأم بوليدها، فهن غير قادرات على خدمة أنفسهن، فتأتي هكذا على عجل، وأزودها بما تحتاج، فلو تركتهن وحدهن ربما يؤذين أنفسهن، أو يسببن الأذى لبعضهن.
قالت جدتي إن وجود مريض في البيت يجعل كل أفراد العائلة مرضى. كانت جدتي محقة، لأن الأم خصوصاً هي من تحمل هم ابنها حين يمرض لأيام، فكيف إذا ما كان يمضي بقية حياته مقعداً على كرسي متحرك؟
قالت لي بعد وفاة ابنها الذي ظل مشلولاً سنوات: آخر عبارة نطق بها هي الديون يا أمي، ويقصد بها تكلفة علاجه التي جعلت الديون تتراكم على أسرته، ما جعله موقناً بأنه سيتركهم للحزن، وهمّ تسديد الدين.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.