مصر التي لوّحت ولا تزال تلوّح

مصر التي لوّحت ولا تزال تلوّح

23 فبراير 2024
+ الخط -

عرفنا وعرفت الدنيا كلها أن الاحتلال الصهيوني يمارس عمليات إبادة وتطهير عرقي، ويشن حرب تجويع ويرتكب جريمة ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني في غزّة. بات هذا كله ثابتاً وموثقّاً بالأدلة من خلال آلاف الأوراق المحفوظة في محاضر اجتماعات محكمة العدل الدولية، ويدركه الرأي العام كله، بل أكثر من ذلك تعترف به إسرائيل نفسها بكل فخر، ويجري على ألسنة وزرائها. لا جديد، إذن، يمكن أن تضيفه تصريحات المسؤولين العرب الغزيرة جدّاً في بيان وحشية العدوان الإسرائيلي، وهي التصريحات التي يطلقها أصحابها بلا كلل أو ملل، وهم يحسبون أنهم بذلك أدّوا ما عليهم تجاه شعب شقيق يصرخ صباحاً ومساءً منادياً على أشقائه أن يفعلوا شيئاً لردع المعتدي، فالمأساة من البشاعة بما يجعل مرافعاتٍ عربيةً بليغة أمام محكمة لاهاي أو مشاريع قرار في مجلس الأمن كافية لإعلان البراءة من دم الشقيق المسفوح، وبما لا ينفي التواطؤ بالصمت وبالرطانة اللغوية في المنابر الإعلامية.

قبل يومين، كان رئيس هيئة الاستعلامات المصرية، ضياء رشوان، يشكو في مداخلة تلفزيونية من أن إسرائيل تتعامل باستخفاف مع المحاولات المصرية لإيصال شاحنات المساعدات إلى الشعب في غزّة، فيقول بالحرف "من غير الواقعي أن تُقدم مصر على إدخال شاحنات المساعدات إلى قطاع غزة دون خطوة التفتيش من قِبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، لأنها دخلت بهذه الطريقة ستتعرّض للقصف من قِبل جيش الاحتلال"، وأن إسرائيل"لم تتورع عن قتل موظفي الأمم المتحدة، ولا العاملين بالإغاثة الطبية ولا قتل الصحفيين، وبالتالي سيكون سهلاً عليها قتل سائقي شاحنات وعاملين عليها". ثم يعتبر رشوان هذه الإذعان المصري للإجرام الصهيوني منتهى الحكمة، حيث يضيف "أن مصر تتخذ قرارتها بدرجة من الحكمة وبما يجعلها تحافظ على مبادئها وعلى الهدف الرئيسي من تحركّاتها على الصعيد الإغاثي، وليس مُجرد التصعيد الذي لن يكون مفيدًا للفلسطينيين".

لا خلاف مع المتحدّث الرسمي المصري في توصيف حالة الاحتلال الصهيوني الذي يتصرّف بطريقة إجرامية ويستخف بكل شيء، بما في ذلك المحاولات المصرية للمساعدة، لكن ذلك لا يعفينا من طرح السؤال الأهم: ما الذي أودى بمصر إلى هذه الخفّة إلى درجة أنها لا تستطيع استخدام معبر برّي لها كامل السيادة عليه ويربطها بأشقائها الفلسطينيين؟ كيف انحدرت الأحوال واختلت الموازين إلى الحدّ الذي يجعل مسؤولاً مصريّاً رفيعاً يرأس مؤسّسة يقع نطاق عملها بين الأمن والإعلام، على يقين بأن الشاحنات المصرية سوف تتعرّض للضرب إن قرّرت القاهرة اتخاذ قرار هو للواجب أقرب بإغاثة شعبٍ شقيقٍ يموت جوعاً وعطشاً وحرمانأً من العلاج؟. لماذا وصلنا إلى الحدّ من الهوان وقد فعلناها قبل ذلك منذ أكثر من 11 عاماً في عدوان مماثل وأدخلنا الشاحنات والقوافل، وحذرنا المعتدي من التعرض لها فارتدع وأوقف قصفه على الأشقاء؟ هل هو الغاز الطبيعي وفواتيره المؤجّلة ومكافآته الإضافية يمكن أن يجعل الفعل المصري سجيناً للغطرسة الإسرائيلية على هذا النحو؟

ليست هذه الحالة من التسليم بالقدرة المطلقة للوقاحة الصهيونية على السماح والمنع والتحكّم في كل شيء وقفًا على الأداء المصري فقط، فالكلُّ مكتفٍ بالكلام والخطابة، بما يجعل كل ما تقوم به الدبلوماسية العربية من تحرّكات بمواجهة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني لا يؤهّلها لأكثر من وظيفة المعارضة لحكومة نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، وبقية عصابة اليمين الصهيوني المتطرّف، وهي الوظيفة التي يمارسها زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير ليبيد بشكل أوضح وعلى نحو أكثر كفاءة.

باختصار، بعد مرور نحو خمسة أشهر على الانفراد الصهيوني بالشعب الفلسطيني، لم يعُد أحد يأخذ على محمل الجدّ المواقف العربية الخطابية. وعليه، لا يكفي أن يصرّح رئيس الاستعلامات المصرية، مثلًا، إن "مصر لوّحت ولا تزال تُلوّح، بأنها تملك ما تملك للدفاع عن أمنها القومي وعند القضية الفلسطينية معًا"، لكي يشعر الكيان الصهيوني بالخطر، أو يأخذ خطوة واحدة إلى الوراء في عدوانه المستمرّ.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا