محنة الصحافة في تونس

26 مايو 2024

تونسيون يحتجون في مظاهرة في العاصمة ضد قمع الحريّات (24/5/2024/فرانس برس)

+ الخط -

توالت في تونس ملاحقة الصحافيين والمدونين، وإحالة بعضهم على القضاء، وصدور أحكام بالسجن على بعضهم، ما أحدث صدمة لمعظم المثقفين والنشطاء والمراقبين للحياة السياسية في تونس. واعتبرت نقابة الصحفيين هذا الأمر "سياسة جزائية ممنهجة هدفها التضييق على حرية الصحافة والتعبير"، مؤكّدة أن "المعالجة القضائية لقضايا حرّية الصحافة ستخلق مناخاً عاماً مشحوناً يكرّس خطاباً أحادي الجانب ويضرب في مقتل قواعد التعدّد والاستقلالية في وسائل الإعلام، ويضرب المبادئ الدستورية التي تكرّس الحقوق والحرّيات".

وبقطع النظر عن أن تكون صحافياً أو ناشطاً أو مبدعاً أو نقابياً أو مواطناً عادياً، على الجميع التفكير ملياً في اختيار كلماتك عند التعبير عن موقف أو صياغة مقال أو تنشيط برنامج تلفزيوني أو إذاعي، أو الإدلاء بتصريح أو نشر خبر أو الانخراط في سجال عبر إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، لأنك في كل هذه الحالات قد تصبح مداناً ومُحالاً على إحدى المحاكم، بتهم الثلب والتحريض والقيام بعمل فاحش وترويج أخبار زائفة والمسّ بأعراض الغير والحطّ من المؤسّسات والاعتداء على هيبة الدولة، والقائمة مفتوحة.

أحدث الضحايا برهان بسيس ومراد الزغيدي، لكل منهما طريقه وأسلوبه وتاريخه. كلاهما حاول السباحة في هذه الظروف المعقدة، ولم يتوقّعا أن يُعتقلا بسبب جمل متفرّقة صرّحا بها أو كتباها في تدويناتٍ قد تعود إلى سنواتٍ خلت. لهذا جاء الحكم عليهما بسنة سجناً صادماً لكثيرين، بمن فيهم موالون للرئيس قيس سعيّد أو من ساندوه سابقاً في مناسباتٍ عديدة. في هذا السياق، تعدّدت الاعتذارات التي قدّمها بعضهم عمّا صدر منهم سابقاً، فالمحامية وفاء الشاذلي التي حاربت بقوة حركة النهضة وساندت بشدة سياسات الرئيس سعيّد، لم تتردّد في القول: "كنت في تخميرة، وأعتذر لأنني ساهمت في بناء سجن كبير بتونس". وكتبت الباحثة الجامعية ألفة يوسف: "أعتذر من قلبي لكل من انتقدتهم بل شتمتهم أحياناً بعد 2011. لا فقط لأني أنا نفسي تبدلت وتغيرت، وأسعى ألا أقابل الشتيمة بالشتيمة، لكن أعتذر لهم لأنهم رغم كل شيء لم يسجنوني". وكتب الممثل الساخر لطفي العبدلي: "سامحوني لأني انتخبت قيس سعيّد". ودوّن عضو المكتب السياسي لحركة الشعب التي كانت داعماً بقوة لحركة 25 جويلية: "وثقت بك والآن أوقفت أوهامي". واعتبرت ليلى طوبال، الممثلة المسرحية المساندة للرئيس "المساس بأهمّ مكاسب الثورة، وهي حرية التعبير، أمراً مرفوضاً شكلاً ومضموناً".

ينتشر القلق على نطاق واسع في صفوف النخبة التونسية. أصبح المقتنعون بصحّة المسار أقلية، رغم أن شريحة واسعة من التونسيين لا تزال داعمة للرئيس. وهؤلاء غير معنيين بحرية التعبير التي اعتبروها مضرّة بالبلاد، ويقولون إنها أدّت إلى الفوضى وتغذية الصراع حتى أصبح الجميع ضد الجميع. ولكن هل يعني هذا أن يتخلّى شعبٌ عن حريته وحقوقه لمجرّد أخطاء ارتكبها هذا الطرف أو ذاك. يمكن تدارك الأخطاء وتصحيحها بعد محاسبة مرتكبيها، لكن التنازل عن الحرّية يؤدّي إلى الاستبداد وضياع الحقوق.

تعتبر سلسلة الاعتذارات التي تقدّم بها بعضهم إلى الرأي العام مؤشّراً مهما على حدوث تحوّل لدى الداعمين سابقاً لتوجهات السلطة. تتجه جبهة الرئيس نحو التفكك والتقلص بعد أن بقيت متماسكة حوالى ثلاث سنوات، وهو ما يحاول خصومُه استثمار ذلك في المعركة السياسية الدائرة حالياً، وسيتضاعف الحفر في هذا الاتجاه في المرحلة المقبلة من أجل تغيير موازين القوى مع حلول الانتخابات الرئاسية. لقد عاد الأمل لدى المعارضة في احتمال قلب الطاولة وتحقيق نتيجة مفاجئة تقطع مع المشهد الراهن وتفتح أفقاً جديداً.

من المهم أن تراجع النخبة مواقفها، وأن تتوقّف عن الخطابات العنيفة المحرّضة على إلغاء المخالفين، والدعوة إلى إقصائهم. لقد أظهرت التجمّعات الاحتجاجية وجود وعي متجدّد بأهمية الدفاع عن الحريات والحد الأدنى من الحقوق. وفي هذا المنعطف، يتقاطع الخصوم وتذوب الخلافات أو يجري تأجيلها إلى ما بعد انتهاء المعركة.

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس