محاكمات الكيان الصهيوني وكسب المعركة القانونية
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
أصبحت محكمة العدل الدولية مسرحاً لمحاكمات متلاحقة للكيان الصهيوني المحتل، وتضم مرافعات قانونية تتصادم فيها الرؤى والمواقف والتحاليل من أجل دفع المحكمة إلى اتخاذ قرارات أو تدابير احترازية أو آراء استشارية لصالح طرح دون آخر باعتماد حجج وبراهين ومواقف فقه قضائية تستند إلى القانون الدولي، وهو فرعٌ قانوني من أكثر الاختصاصات التي تثير جدلا ونقاشات فقهية وسياسية وشعبية حادّة بشأن وجوده وجدواه وفاعليّته وقدرته على إرساء أسس نظام دولي قائم على السلم والأمن والتضامن بين الشعوب والدول، لا سيما عبر مجابهة التحدّيات والكوارث والآفات التي يشهدها المجتمع الدولي، وفي مقدّمتها النزاعات المسلحة المدمّرة للإنسانية، والقاهرة للسكان المدنيين العزّل الذين يتكبّدون ويلات الحرب من دمار وقتل وتجويع وتشريد وهضم للحقوق والحرّيات الأساسية للإنسان، فلا أبشع من الحروب في تاريخ الإنسانية، ولا أشد وطأة من الدمار الذي تخلّفه على البشر وجميع الكائنات الحية، فهل تمكّن القانون الدولي من إحداث قطيعة فعلية مع الحروب واللجوء إلى العنف المسلّح بجميع أشكاله وتكريس ميثاق الأمم المتحدة في مبادئه الأساسية المتمثلة في تحجيم القوة المسلحة وإقرار الفضّ السلمي لكل النزاعات والخلافات الدولية والداخلية، وتعزيز حقّ الشعوب في التحرّر وفي تقرير مصيرها.
ميثاق الأمم المتحدة
لقد أقرّ ميثاق الأمم المتحدة والقرارات الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن باستثناءات محدّدة، وذات تأويل ضيّق لمبدأ منع النزاعات المسلحة واللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية، وتتمثل في إقرار حق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي للدول في حال تعرّضها لعدوان مسلح. ويتأسّس هذا النظام على الفصل 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي ضبط شروط اللجوء إليه وقيدها بطابعها الوقتي المشروط بتدخل مجلس الأمن لإحلال السلم ووضع حدٍّ للعدوان. وعلى الرغم من ذلك، أثار هذا الاستثناء جدلا فقهيا وسياسيا كبيرا، وأدّى إلى ازدواجية وضبابية على مستوى التطبيق. ولعلّ من أبرز تجلياتها تسخيره من بعض الدول العظمى كالولايات المتحدة لتبرير هيمنتها على العالم، عبر تسويق مفهوم الدفاع الشرعي الاستباقي أو الوقائي لشنّ حروبٍ على الأنظمة المناوئة لها في العالم تحت راية مقاومة الإرهاب أو الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويتمظهر الاستثناء الثاني في نظام الأمن الجماعي الذي يرتكز على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ويجيز لمجلس الأمن اللجوء إلى وسائل الزجر الدولي واستعمال القوة المسلحة في صور محددة ضبطها الفصل 39 من الميثاق، وتتمثل في تهديد للأمن والسلم الدوليين أو قطع لهما أو في صورة عدوان مسلح. ويمنح هذا النظام مجلس الأمن سلطة تقديرية واسعة وصلاحيات متعدّدة تشمل اللجوء إلى التدابير الوقائية أو العقوبات الاقتصادية أو قطع العلاقات الدبلوماسية، وتصل إلى حدّ السماح بإجراءات عقابية مسلحة. ويتمثل الاستثناء الثالث في إقرار الحق في مقاومة الاحتلال الأجنبي للشعوب من أجل إطار تكريس حقها في تقرير المصير الذي يندرج ضمن أهداف الأمم المتحدة باعتبارها الضامن لسيادة الدول واستقلالها وتحرّرها من نير الهيمنة الأجنبية وأنظمة الميز العنصري.
تخضع دولة الاحتلال الإسرائيلي لواجبات تجاه سكّان الأراضي المحتلة، ولا يجوز لها، طبقا للقانون الدولي، انتهاك حقوقهم تحت ذريعة الدفاع الشرعي
وحريُّ بنا أن نلاحظ أن العدوان الصهيوني على قطاع غزّة وعلى كل الأراضي الفلسطينية المحتلة يحيلنا ضرورةً إلى هذه الاستثناءات الثلاثة، ويرتبط بها ارتباطا وثيقا من ناحية، إما للبحث عن شرعنة الاحتلال وجرائم الحرب أو للدفاع عن الحقّ الفلسطيني المهدور في ردهات مجلس الأمن، وعلى أعتاب المنظمّات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان. وتبدو محكمة الأمن الدولي الملاذ الوحيد لهذا الشعب للذود عن حقوقه الدولية وإسناد المقاومة المسلحة التي جرى استهدافها بإلحاق شتى أنواع الوصم والإدانة لها، وذلك باعتبارها حركاتٍ إرهابية ونفي أو تغييب التكييف الدولي الأرجح قانونا عليها، وهو المتمثل في أنها حركات تحرّر وطني بصدد ممارسة حقها الشرعي في مقاومة الاحتلال ودحره بكل الوسائل المتاحة، بما فيها أن تلوذ إلى الدفاع المسلح عند فشل كل المساعي السياسية والتفاوضية السلمية.
التزامات على دولة الاحتلال
لذلك، ننطلق في طرحنا من الحقّ في الدفاع الشرعي الذي صدّعت به دولة الاحتلال الإسرائيلي الآذان إثر عملية المقاومة الفلسطينية، طوفان الأقصى، وسوّقته أيما تسويق جعل أغلب الدول تهرول لنجدتها ودعمها قبل أن يتّضح بطلان مزاعمها وتتضح الرؤى لأغلب الأطراف الداعمة أن هذا الزعم لم يكن إلا مطيّة قانونية وسياسية فجّة لتبرير عدوان وحشي وعمليات تطهير عرقي وتهجير ممنهجة وتجويع للشعب الفلسطيني، إذ لا يصحّ قانونا أن تمارس دولة احتلالٍ حقّها في الدفاع الشرعي ضد شعب يخضع لهيمنتها وبطشها أو إزاء حركات مقاومة وتحرّر وطني ضمن لها القانون الدولي الحقّ في الكفاح والنضال من أجل التحرّر والانعتاق ونيل استقلالها، بل تقع على دولة الاحتلال واجباتٌ والتزاماتٌ تجاه السكّان الخاضعين لسيطرتها، حيث تنصّ المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرّخة في 12 أغسطس/ آب 1949 على منع النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى أيا كانت دواعيه، وإن كانت الاتفاقية تجيز لدولة الاحتلال إخلاءً جزئياً أو كلياً لمنطقة محتلة معينة لأسباب عسكرية قاهرة، أو من أجل الحفاظ على أمن السكّان، فإنه لا يجوز أن يترتب على عمليات الإخلاء نزوح الأشخاص المحميين إلا في حدود الأراضي المحتلة. وتلتزم دولة الاحتلال بإعادة السكان المنقولين إلى موطنهم بمجرّد توقّف الأعمال العدائية. كما لا يجوز لها أن تنقل جزءاً من سكّانها المدنيين إلى الأراضي المحتلة. أضف إلى ذلك أن الفصل 55 من الاتفاقية المذكورة يضع على عاتق دولة الاحتلال واجب تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية، وأن تستوردها إن كانت موارد الأراضي المحتلة غير كافية، إلى جانب حماية المنشآت الصحية وصيانتها. وإذا كان سكّان الأراضي المحتلة أو قسم منهم تنقصُهم المؤن الكافية وجب على دولة الاحتلال أن تسمح بعمليات الإغاثة لمصلحة هؤلاء السكان وتوفّر لها التسهيلات، وعلى جميع الدول الأعضاء في اتفاقية جنيف أن ترخّص بمرور رسالات الأغذية والإمدادات الطبية والملابس بحرية، وأن تكفل لها الحماية.
لا يصحّ قانوناً أن تمارس دولة احتلالٍ حقّها في الدفاع الشرعي ضد شعب يخضع لهيمنتها وبطشها
وهذا في الواقع غيضٌ من فيض الحقوق التي كفلها القانون الدولي الإنساني للسكان الخاضعين لهيمنة الاحتلال، والتي لا يتسع هذا المقال لطرحها جميعا، وإنما ذُكر بعضها للدلالة على أن دولة الاحتلال تخضع لواجبات تجاه سكّان الأراضي المحتلة، ولا يجوز لها، طبقا للقانون الدولي، انتهاك حقوقهم تحت ذريعة الدفاع الشرعي. كما أن مفهوم الدفاع الشرعي، وإنْ سلّمنا جدلا بتطبيقه، يقوم على مبدأ التناسب بين الخطر المحدق والوسائل المعتمدة لردعه، وهو أمر لا يتحقّق في ظل آلة الحرب الشعواء التي جنّدتها دولة الاحتلال لإبادة شعب بأكمله والانتقام منه، بحيث لا تتناسب مطلقا مع ممارسة الحقّ في الدفاع الشرعي الذي يقتضي الاكتفاء بما هو ضروري من الإجراءات لوقف العدوان، وأن يتجاوز ذلك بجعل الحرب والتنكيل والاضطهاد غاية في حدّ ذاتها، كما أن نظام الدفاع الشرعي، كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، يقتضي ضرورة تدخّل مجلس الأمن ليحلّ محلّ الدولة المُعتدى عليها عبر آلياته الخاصة الرامية إلى الدفاع عن الأمن والسلم الدوليين، وهو ما يتجسّد عبر الطابع الوقتي والوظيفي للدفاع الشرعي، فمن يمارس الدفاع الشرعي في مفهومه الحقّ وعملاً بمقاصده الرامية إلى وقف عدوان بلغ حدّاً من الخطورة والشدّة وانتهك حقوقا أساسية للشعوب والدول هو الشعب الفلسطيني الخاضع لقمع سلطات الاحتلال وطغيانها، ويتم هذا الدفاع ضرورة عبر حركات المقاومة التي تمثله، وفي إطار تحقيق أبرز أهداف الأمم المتحدة، وهو الحقّ في تقرير المصير باعتباره الضامن الجوهري للسيرورة من حالة المقاومة الوقتية نحو حالة دائمة من الاستقلال وتكوين دولة ذات سيادة، فالشعوب المحتلة تواجه عنفا غير شرعي وجب التصدّي له.
ولا يتناسب هذا التأويل مع روح ميثاق الأمم المتحدة فحسب، بل أقرّته القرارات الصادرة عن الجمعية العامة، ولعل أبرزها وأولها القرار 2105 في 20 ديسمبر/ كانون الأول 1965، الذي اعترف بحق الشعوب الخاضعة للهيمنة الاستعمارية في المقاومة والنضال بكل الطرق الضرورية لنيل استقلالها وحريتها، واعتبرها مقاومة شرعية، بل دعا الدول إلى تقديم العون المادي والمعنوي لحركات التحرّر الوطني داخل الأراضي المحتلة. كما حظر القرار 2625 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 1970 على الدول استعمال الإجراءات الزجرية أو الردعية لحرمان الشعوب الخاضعة للاحتلال وللأنظمة العنصرية من ممارسة حقّها في تقرير مصيرها وفي الحرية والاستقلال.
كسب المعركة القانونية على المستوى الدولي أصبح رهاناً حقيقياً يخوضه الشعب الفلسطيني وأنصار الحرية والعدالة في العالم
أما الاستثناء الثالث الذي يجعل من مجلس الأمن حارسا دوليا على الأمن والسلم الدوليين، ويخوّل له اللجوء إلى القوة الشرعية، فهو كان ولا يزال شاهداً على ازدواجية المعايير التي يعتمدها مجتمع دولي منح خمس دول أعضاء في مجلس الأمن وضعا فوق دولي، وجعلها متحكّمة في مصير الدول والشعوب، لا سيما عبر استعمال حق الفيتو الذي يخوّل لها تعطيل أي قرار دولي لا يتناسب مع مصالحها ومصالح حلفائها، مؤدّيا بذلك إلى شلل في نظام الأمن الجماعي الذي أراده ميثاق الأمم المتحدة حاميا للأمن والسلم الدوليين، فتحوّل في أوضاع عديدة تهديدا لها ومشرّعا عدم مساواة وميز ممأسسيْن بين الدول. والحال أن من أهم المبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتحدة والمؤسّسة له مبدأ المساواة في السيادة بين الدول الذي يفترض تكافؤاً في الحقوق والالتزامات بينها. وقد تجلى ذلك في أبشع مظاهره وأكثرها تهديدا للقيم الإنسانية في الاستعمال المشين والمشوّه لحق الفيتو من الولايات المتحدة للحيلولة دون وضع حد لمآسي الشعب الفلسطيني في غزّة ولحرب الإبادة الجماعية والتجويع التي تُشنّ ضدّه بصفاقة ووحشية مُؤذنةٍ بانهيار هذا النظام الأممي الذي بات عاجزاً أمام غطرسة أعضائه التي أقرّها لهم وحافظ عليها طيلة أحقاب وأجيال متعاقبة، على الرغم من التحوّلات الهائلة التي شهدها المجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، بحيث أضحى الإصلاح وإعادة النظر والتقويم أمورا ملحّة لهذا النظام العالمي الجائر والتمييزي.
الحاجة إلى القانون الدولي
ولكن القانون الدولي يبقى، على ما يتضمّنه من مفارقات وتأويلات متناقضة وتطويع من القوى العظمى، طوق نجاة وملاذاً قانونياً للشعب الفلسطيني الذي يصرّ على خوض مقاومته في جميع الساحات وعلى كل الأصعدة. وما محاكمة جنوب أفريقيا الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزّة أمام محكمة العدل الدولية إلا مرحلة في هذا المسار الذي حرص الفلسطينيون على عدم التقليل من شأنه منذ بداية صراعهم مع القمع والاحتلال، من ذلك مثلاً أن محكمة العدل أصدرت رأياً استشارياً سنة 2004 تقرّ فيه عدم قانونية جدار الفصل العنصري الذي أقامته قوات الاحتلال على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتطالبها بإزالته. وأخيراً طلب الاستفتاء أو الرأي الاستشاري الذي تقدّمت به الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى محكمة العدل للنظر في العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بما في ذلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والاضطهاد والفصل العنصري والاستيطان المسلّطين على الشعب الفلسطيني. وما يثير الانتباه هو العدد المهم وغير المسبوق من الدول والمنظمات التي أدلت بدلوها حول هذا الاستفتاء الذي بلغ 52 دولة وثلاث منظمات، من بينها "هيومن رايتس ووتش" التي اعتبرت أن هذه المشاركة الواسعة "تعكس الزخم العالمي المتزايد لمعالجة الفشل المستمرّ منذ عقود في ضمان احترام القانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة". وتعبّر هذه المشاركة أيضا عن عودة "البريق الدولي" للقضية الفلسطينية، وما أضحت تحظى به من أولوية في المشهد الدولي بعد عقود من التهميش، من أسبابها الرئيسية اتفاقيات أوسلو الباطلة التي أدّت إلى تخدير القضية دولياً، وموجة التطبيع العربية المشينة التي أوهمت المجتمع الدولي بإمكانية تصفيتها.
ويبدو أن كسب المعركة القانونية على المستوى الدولي أصبح رهاناً حقيقياً يخوضه الشعب الفلسطيني وأنصار الحرية والعدالة في العالم، فإن كانت المعركة السياسية تتنازعها مصالح الدول والحسابات الاستراتيجية الضيقة للقوى العظمى، فإن المقاومة القانونية، كما المقاومة المسلحة، أضحت مصيرية لمجابهة الخذلان السياسي الدولي عموماً، والعربي خصوصاً.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية