عن مكافحة الجريمة الإلكترونية

عن مكافحة الجريمة الإلكترونية

15 اغسطس 2023

(Getty)

+ الخط -

ما كان لقانون مكافحة الجرائم الإلكترونية الذي أصبح نافذاً في الأردن، قبل نحو أسبوعين، أن يمرّ في البرلمان وفي المجال العام، بأقل قدر من الاعتراضات على تغليظ العقوبات وليس على المبدأ، لولا أن السيل كان قد بلغ زباه، وصارت منصّات التواصل والمنابر والمواقع المختلفة ساحات رحبة لبعض من في نفوسهم مرض، تجري على حيطانها عمليات الترهيب والابتزاز، وبثّ الفتن والكراهية، والقدح بالأعراض واغتيال الشخصية.
والحقّ أنه كان ينبغي قول هذا الكلام من قبل، عندما اشتدّ طنين الذباب في الواقع الافتراضي، بما يحتويه من مخلوقات إلكترونية لا حصر لها. وكان ينبغي أيضاً الدعوة إلى التصويب من دون مغالاة أو افتئات، بعد أن تحوّل الفضاء الإلكتروني إلى جزء رئيس من حياتنا اليومية، وكاد هذا العالم الزاخر بالعلوم والمعارف أن يهيمن على الواقع الحقيقي لدينا، بل وأن يحلّ محله.
ولا شكّ في أن مزايا هذا العالم المتخيل، وتنوّع مخرجاته التي أعادت تشكيل حياة الإنسان المعاصر، قد تم الافتراء عليه في السنوات الأخيرة، وجرى استخدامُه بفظاظة وتعسّف لمختلف الأغراض السلبية، من جانب الرعاع والسفهاء ومنظمات الإرهاب، جنباً إلى جنب مع الغايات المفيدة في أسواق المال والإعلام والأعمال والتعليم والعلوم، ولكل من وجد له متّسعاً في هذا الفضاء، إما لتحقيق منفعة، أو لقول كلمة وإبداء رأي، بلا قيد، سوى قيد الوازع الأخلاقي.
ولعل السطر الأخير هو بيت القصيد في هذه العجالة، ونعني به هذا التفلّت المستشري على الشبكة العنكبوتية، وهذه السموم الطافحة بالغثاثة والركاكة والعدمية، وغير ذلك من الخصال الذميمة، والسمات السلبية المتزايدة في هذا الفضاء الجميل، الذي كثيراً ما تتلبّد فيه الغيوم الحمضية، وتحوم في مداراته الدبابير، تعقِص هنا، وتهجم هناك، لتجعل هذا العالم الذي لا يمكن العيش خارجه بعد اليوم، عالماً يتعذّر تقبّله هكذا في بعض الأحيان.
وإذا ما انتقلنا من التعميم إلى التخصيص، وأجرينا كشف حساب سريعا مع الحالة السائدة، لتشخيص بواطن ما آل إليه عالمنا الافتراضي من ازدحام مروري، فإننا سنجد مخزوناً هائلاً من الكراهية والرغبة في الانتقام، وحدّث ولا حرج عن تصفية للحسابات الشخصية، وكأن لدينا بركاناً من الغضب والإحباط، يبحث له عن مخرج ما، لقذف شواظ حممه في كل اتجاه، تماماً على نحو ما بدا عليه مشهد عالمنا الافتراضي حتى الأمس القريب. إذ كثيراً ما كان يمطر المتربّصون الأوغاد عالمنا الافتراضي بالترّهات والنميمة والافتراءات، فزادوا الأجواء المكفهرة احتقاناً فوق احتقان، ومضوا إلى أبعد ما يكون عن السجال المشروع في حالات الخلاف وتباين المواقف، وأغلظوا الكلام ليس ضد رأي ما، وإنما مخالفيهم الرأي، إن لم نقل قمعهم، لتنزلق بنا الانفعالات الهائجة إلى ضفاف عصبيات عقائد مكبوتة، وحبائل فتنةٍ نصف نائمة، وهو الأمر الذي لفت انتباه كتّاب ومثقفين ومسؤولين، راحوا يحذّرون من تداعيات انفلات هذا الأمر على السلم الأهلي، إذا ما واصلت الكراهية إشعال النيران.
وأحسب أن كوكبة صغيرة من الكتّاب المرموقين كانوا من بين أوائل من قرعوا الأجراس، وتصدّوا بأقلامهم لمخاطر تغوّل ظاهرة الافتراء على الناس، وزعزعة قواعد العقد الاجتماعي، إذا ما تم غضّ الأبصار طويلاً عن مثيري الفتنة، وتسامح أولي الأمر بإنفاذ القانون مع حالات الخروج عن النظام العام، فضلاً عن ضرورة الانتباه إلى ما سماها بعضهم الحاجة إلى مبادرة جادّة لإدخال التربية الإعلامية، بمفهومها المعاصر، إلى المناهج التعليمية، في إشارة الى عقابيل تفشي المظاهر السلبية، وافتقار الشباب إلى القدرة على إصدار الأحكام الموضوعية.
ومع الاعتراف المسبق بصعوبة تحقيق الغاية المأمولة، حتى بعد إقرار قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية اخيراً، لا مفر من ضم صوت كل ذي ضمير يقظ إلى الأصوات المطالبة بترشيد التعقيبات المسيئة للغير، وفلترة لغو الكلام التحريضي الصادر عن المتعصّبين والاستفزازيين والمجاهدين على الإنترنت، بل ومساءلة الجهات التي تجيز نشر الإهانات والشتائم، وتبيح الاغتيال المعنوي، وتقارف الابتزاز، وتعمّق من حدّة خطاب التطرّف السياسي والديني، تحت ذريعة حرية الإعلام وحق التعبير، لعل مثل هذه المصدّات والكوابح التنظيمية والتشريعية، ومنها القانون الجديد، تساعد على تنقية أجواء العالم الافتراضي من السموم، وتخلّصه من كل درنٍ خبيث.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي