عقل العويط .. نشيج بيروت والمرفأ عالياً

06 اغسطس 2021
+ الخط -

حدث في السادسة وسبع دقائق مساء يوم الرابع من آب، العام الماضي، أن انفجارا قياميّا دمّر الكثير من بيروت، وجرّح روحَها، وأجهز على مرفئها، ارتفع فيه قتلى كثيرون إلى العلا. خيض في الواقعة، ذات الفداحة المهولة، كلامٌ كثير. أما صانع الأدب، شعرا أو مسرحا أو سردا، لمّا يحدّق في مشهدٍ كهذا، ليس له أن يأتي بأي كلامٍ إن أراد أن يأتي إبداعا، فيبني من اللغة والإيحاء والمجاز، من الواقعي والمتخيّل، من القريب والبعيد، ...، مبناه الخاص الذي يطلّ منه وفيه على المشهد وتفاصيله الغزيرة. وما فعله الشاعر عقل العويط، في مطوّلته، أو ملحمته، أو محض قصيدته، "الرابع من آب"، الصادرة في كتابٍ ضمّها (دار شرق للكتاب، بيروت، 2021)، أنه عبَر من بيروت قبل السادسة وسبع دقائق مساء ذلك اليوم الذي اكتمل أول من أمس عامٌ عليه إلى ما بعد السادسة وسبع دقائق مساء ذلك اليوم، من لحظةٍ سابقةٍ على الانفجار في المرفأ إلى لحظةٍ تالية، لتكون بيروتُ ما قبلُ غيرَها ما بعدُ. لتصيرَ في نشيجٍ عالٍ. لتقولَ الذي في حواشيها، وتعلن، بالصراخ والغناء الخافت والأنين، وبالنشيد واللوعة والاحتضار، وبالصمت أيضا، وبكثيرٍ غير هذا كله، أسىً عاليا، تستدعي فيه آلاما بعيدةً وأخرى ماثلةً فيها، وتضجّ مفرداتُ الغضب والتفجّع والاحتجاج والسّخط فيها بتراجيديا الشهادة والموت. وفي 65 صفحة، بلا عناوين فرعية بين مقاطع الشعر المتّصل بالنثر الموصول بالمسرحي والموشّى بالحواريّ، يبسط عقل العويط بيروت الذي صار ميناؤها قتيلا، بيروت التي لا يقدر رثاءٌ على رثائها، بيروت المدمّاة، المجروحة، بيروت التي تبدو في خواتيم القصيدة كأنها تنتظر عبورا إلى زمنٍ آخر، يأتيها بأعجوبةٍ ما، قد تنجيها.

سيكون لقصيدة عقل العويط موقعها الفريد في عنقود القصائد الوفيرة عن بيروت، ليس لخصوصية السمْت الفجائعي المشحونة فيه، وليس لأنها فعلٌ طموح في الإفادة من كل ممكنات اللغة للتعبير عن السخط من موت هذه المدينة التي ليست مثل أي مدينة، وإنما أيضا وأيضا للتحدّي الذي تواجِه به من يقصد تصنيفا لها، ذلك أنه بقدر ما فيها من مساحات الرثاء فإن فيها مقادير من الاحتفال ببيروت، كما أنها قصيدةٌ تعلن عجزَها عن وصف ما تريد وصفه، وفي الوقت نفسه، تذهب المجازات فيها إلى مطارح باهظة الإيحاء، ومواضع فيها الحدّة والوداعة معا. كما أن التداخل المركّب فيها بين السوريالي والواقعي، بين الشعري الذي يمتح من متخيّلٍ عالٍ والنثري الآتي من فائض البساطة في العادي من الأشياء واليوميّ من الحوادث العابرة، هذا التداخل الذي يصنعه راءٍ وراوٍ، شاعرٌ وناثرٌ، جديدٌ على القصيدة البيروتية التي حضر فيها فائضٌ من مديح المدينة التي تحاول أنفاسُها، في صنيع عقل العويط، أن تُسعفها في الحكي عن نفسِها، وهي في مساحة احتضار، وفي مسافةٍ زمنية بين ما قبل السادسة وسبع دقائق وما بعدها. وعلى ما في النصّ من بعض التعقيد المتتابع اللاهث في صياغة مشهد بيروت وأنينها وزفرات مرفئها، إلا أن عنوان القصيدة على غلاف الكتاب غايةٌ في البساطة، كما التصميم الرائق للفنان إميل منعم، لا ينبئ عن غير زمن الواقعة إيّاها، الرابع من آب.

"أيصحّ أن يُرثى مكانٌ ما/ لم يلتئم بأشلائه؟!" .. واحدٌ من أسئلةٍ توزّعت في النص المتتابع الحركات والمشهديات، والذي يحتشد بالآلام وبشظايا الزجاج والحشرجات والأجنّة المجهضة والحرائق والغيوم الواطئة. لا يستسلم عقل العويط إلى غواية التفجّع والطلليات والمكوث في الحنين ولعن القتلة الذين "عبثا يهربون من مرايا كوابيسهم"، بل تتّسع حدقتا عينيه ليرى ما قد لا يراه غير الشعراء. ومما يرى صديقُنا في غضون المشهد بعد السادسة وسبع دقائق يوم الرابع من آب "جرحٌ يطير ليحطّ على كرسيٍّ مخلوع/ وكرسيٌّ مخلوعٌ لن يعثر على ظلٍّ في شارع ليستريح". ويرى "الفندق الذي غادر كراسيهِ/ لئلا يقدم القهوةَ بفناجين متألّمة"، وينادي "يا مدينة الكبريت والصدأ/ لن يؤويك ميناؤك بعد الآن".

نجح صاحب "ماحيا غربة الماء" في إعلان بيروت نشيجَها العالي، وفي إطلاق غضبته، بمفردات الشاعر الذي يعطي المحسوس المعايَن موقعه في تلوينات اللوحة التي يرسمها بأدوات المتخيّل الذي يستأنس بإغريقياتٍ بعيدة وتعبيراتٍ إنجيلية ومراثٍ عتيقة، وقبل هذه وغيرها، بالراهن الذي يحار فيه شاعرٌ يقف قدّام المشهد، يوم الرابع من آب، وينظرُ "في الميناء/الذي ترك مدينته/ تغرقُ/ في بحر الركام والرماد"، ويقول "مجحفٌ أن يكون بيدر قمحك قد صار ملعبا للجرذان"، ويسأل: كيف أصفك يا بيروت؟/ قبل الساعة السادسة وسبع دقائق/ كيف أصفك/ بعد الساعة السادسة وسبع دقائق/ كل ما في الأمر/ أني كنت ميتا/ فكيف لميتٍ أن يصف؟!". .. ولكن الميت الذي سجّى مدينة شهيدة أمامه رأى ما رأى، وكتب نصّا عالي القيمة، من الشعر وغير الشعر. شكرا عقل العويط.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.