عباراتٌ وحكاياتٌ وشخصياتٌ رمضانية

عباراتٌ وحكاياتٌ وشخصياتٌ رمضانية

17 مارس 2024
+ الخط -

ثمّة كلماتٌ، وعباراتٌ، ومصطلحاتٌ تستخدم في لغة الشعب السوري اليومية، مشتقّة من شهر رمضان. مثلاً؛ أيام العزوبية، كنّا نقيم مع والدتي في بلدة معرّة مصرين، واعتدنا أن نسهر، في ليالي الصيف، حتى وقتٍ متأخّر، وخلال السهرة، نشرب الكثير من الشاي والقهوة اللذيْن يحتويان على موادّ منبّهة، فإذا أوينا إلى النوم، يصبح حالنا معه كحال امرئ القيس الذي تخيّلَ الليل مشدوداً بمَغَارِ الفتلِ إلى جبل "يَذْبُلِ"... ويستمر هذا الأرق حتى تخطفنا، على حد تعبير منصور الرحباني، يدُ الوَسَنِ. ولكن، ما إن تمرّ علينا ساعتان من النوم الهانئ، حتى يأتي شقيقنا الأكبر، المعتاد على الاستيقاظ المكبّر، ويملأ البيت لغطاً وحركة، وينادينا بأسمائنا بإلحاح، حتى نستيقظ، وفي لحظة الاستيقاظ المريرة، نتبادل عبارة واحدة: أجا "المسحّر"!

وكان بعض الناس، في بلدتي (معرّة مصرين) يخشون أن يفوتهم مرورُ المسحّر في الحارة فيضطرون للصيام من دون سحور. ومن باب الاحتياط، يعيرون الساعة المنبّهة لتوقظهم وقت السحور. وكانت المرحومة الحاجة أم طارق، والدتي، عندما تتعطّل ساعة منبهة لديها، تضعها في كرتونة خاصة بالكراكيب، وتشتري واحدةً جديدة. وذات يوم، عشيّة رمضان، مررتُ بها، فوجدتُها قد صفّت أمامها ستّ ساعات منبّهة، علا بعضُهن الصدأ، فلما رأتني استبشرت، وطلبت مني أن آخذهن إلى مصلّح الساعات، لنرى إن كانت بينهن واحدة سليمة، فتعيرهن وتستيقظ على صوتهن. نفذت الأمر، كالعادة، وكانت النتيجة أن أربعاً منها تعمل جيداً، عدتُ بها إلى دارها، وعيّرتها جميعاً، بناء على طلبها، على تمام الساعة الرابعة. وفي اليوم التالي، اتصلت بها، لأطمئن عليها، فوجدتُها تضحك، وقالت لي: "فقت تلات مرات قبلما يرنّوا المنبّهات، وفي المرّة الرابعة تسحرت، ونمت، وبعد شوي انطلق الرنين المزعج".

في التسعينيات، تعرّفت على الأديب المحامي نجاة قصّاب حسن، وكان يعمل في تأليف كتابه "جيل الشجاعة"، الذي مَثَّلَ حالة تفاؤل معاكسةً لكتاب بشير العظمة "جيل الهزيمة". وكان من عادة نجاة أن يخلّل مؤلفاته النظرية طرائفَ ونوادرَ ومُلَحَاً، على طريقة المؤلفين القدامى، وقد أورد في كتابه المذكور ما سمعه من أحد أبناء مدينة معرّة النعمان، أن أحد مسحّري البلدة كان يخاطب أهل الحي، كلاً باسمه، فيقول، مثلاً: قوم يا أبو أحمد، اشرب لك بقّين مَي باردة أحسن ما تعطش في النهار، أو: قوم يا أبو إبراهيم، اضربْ لَكْ "مشداقْ مشداقين" قبلما يضرب الطوب. وللعلم؛ كلمة "الشدق"، في الأساس، تطلق على الفم العريض، ولعل الفعل "يتشدّق" منحوتٌ منها، وأحياناً يُضاف حرف الميم إلى الفعل، فيرتفع مستوى المعنى، كأن نقول يتمسخر، بدلاً من يسخر، ويتمشدق، بدلاً من يتشدّق، ومنه نحت أهل معرّة النعمان مصطلح المشداق، بمعنى اللقمة الكبيرة المُشْبِعَة... وأما الطوب، فهي كلمة تركية Top، وتعني المدفع، والمقصود، هنا، مدفع الإمساك. ومما عُرف عن النسوان، في بلادنا، حبهنَّ النميمة، التي تسمّى "الشَلي"، ويكون توجيهها نحو إحدى المعارف، أو الأقارب، وبالأخص زوجة شقيق الزوج التي تعرف باسم السلفة. وعندما تجلس امرأةٌ ما مع صديقاتها، تقول إن سلفتها جاءت لزيارتها وهي تشطُف أرض الديار، وتعزل، بمعنى أن توقيت الزيارة غير مناسب، وتضيف: وجابت لي معها ثلاثة من أولادها سكبة! وكلمة "سكبة" مشتقّة من عادة رمضانية لها علاقة بإرسال كميةٍ صغيرةٍ من الطبخة إلى الجيران، أو الأهل.

وفي رمضان، تكثر الحكايات عن الشخصيات النزقة، وهم، في الأغلب، مدمنو تدخين، فترى واحدَهم يضجر، ويبلغ قمة العصبية قبيل الإفطار بنصف ساعة، ومنهم، في بلدتنا، أبو عموري، الذي كان قد جهز لفافة التبغ، قبل المغرب بربع ساعة، وأمسك بيده اليمنى القدّاحة، وعندما مرّ به أبو عبدو الذي يضرب الطوب، قال له:

- في مجال تضرب لنا الطوب قبل المغرب بخمس دقائق؟

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...