"طوفان الأقصى" يجتاح المنطقة

"طوفان الأقصى" يجتاح المنطقة

16 أكتوبر 2023
+ الخط -

ردّت عملية طوفان الأقصى إلى القضية الفلسطينية اعتبارها، وأعادت ترسيم الصراع العربي الإسرائيلي في مقدمة قائمة قضايا المنطقة، شاء من شاء وأبى من أبى، ولو كان عربياً. بعد أن أحدثت قطيعة سياسية وميدانية مع الواقع الإقليمي الراهن، وبصفة خاصة فلسطينياً وعربياً. وأهم ما في تلك القطيعة أن صفقة القرن ومحاولات فرضها قسراً، أو تمريرها تحايلاً، باتت في ذمّة الله. وهو ما يعني رفع الحرج عن الدول التي كانت مرشّحة للانخراط في تلك الصفقة، ولم تعد بحاجة إلى ذرائع لرفضها أو تبريرات لتنفيذها. وستقوى المواقف الرافضة تلك الصفقة وتصير أشدّ ثباتاً وأعلى صوتاً في نقد أي توجّه نحو مزيد من التطبيع. ويرتبط بهذا التطوّر تجديد الحسّ الشعبي المؤيّد للحقّ الفلسطيني والرافض كل الممارسات الإسرائيلية. وهذه وحدها نقلة نوعية في المشهد الإقليمي، وتحديداً لدى الرأي العام العربي الذي كان الصراع مع إسرائيل قد تراجع ضمن أولوياته في الأعوام القليلة الماضية، ليس تجاهلاً لما يتعرّض له الفلسطينيون، بل اضطرار على خلفية الانهماك في المشكلات الحياتية والأزمات الاقتصادية التي لم تُنتج من جائحة كورونا أو حرب أوكرانيا. بل سبّبتها السياسات الفاشلة لأنظمة تلك الشعوب وحكوماتها.
أبرزت "طوفان الأقصى" أيضاً أن أوزان الأطراف وأدوارها السياسية والاقتصادية، بل والعسكرية أيضاً، مرشّحة بقوة للتغير، وربما تبادل المواقع. وذلك في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من مستوى، تشمل تفعيل (وتعزيز) أدوار الفاعلين من غير الدول، أي التنظيمات والحركات والمجموعات، إذ ستستعيد كثيراً من ثقلها ومكانتها، وبالتالي دور كل منها وتأثيرها في نطاقها. 
نجم عن ذلك الطوفان الفلسطيني حراكٌ إقليمي بين دول المنطقة كافة، سواء تراجعت مكانتها أو التي تسعى لاحتلال مكانة جديدة. وسيستمرّ هذا الحراك في المدى المتوسط على الأقل، ما يعني تغيّرات متوقّعة في التحالفات البينية الإقليمية والعربية. وبعد أن كانت بعض دول المنطقة تتنافس على التقارب مع إسرائيل، والمزايدة على الحقّ الفلسطيني، ستختلف التوجّهات وستبدل بعض الدول رهاناتها جزئياً أو مؤقتاً.
ستستردّ المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال موقعها رقماً صعباً وعنصراً أساسياً في معادلة الصراع، وفي المعادلات الإقليمية ككل. بما في ذلك المنظور النوعي لميزان القوة العسكرية، فقد أثبتت عملية "طوفان الأقصى" أن الفجوة في القدرات العسكرية لا تعني، بالمرّة، حسم أي معركة مسلحة لصالح الطرف الأقوى. بل على العكس، إذ يواجه الأقوى دائماً بمدى الفعالية والجدوى القتالية للأسلحة المتقدّمة، بينما يكون المجال مفتوحاً بالمطلق أمام الأقلّ قدراتٍ وتسليحاً. ومن ثم تقدّم "طوفان الأقصى" نموذجاً سيدرّس لاحقاً حول إيجابيات ضعف القدرات التسليحية على الطرف الأضعف في الحروب غير المتماثلة. والأثر الكبير للعنصر البشري والإبداع التوظيفي لتلك القدرات التسليحية والتكنولوجية المحدودة. وستكون لهذا التطوّر انعكاسات مهمة على صراعات مسلحة أخرى، وخصوصاً الحروب غير متماثلة الدائرة في المنطقة، كما في اليمن وسورية وليبيا. 
على أن فارقاً جوهرياً ينبغي عدم إغفاله، وهو ما يرتبط بالعنصر البشري من محدّدات إدراكية ودوافع ذاتية محفّزة له. وبصفة خاصة المرجعية الحاكمة، فكرية كانت أو عقائدية أو حتى مصلحية. حيث تتميّز فصائل المقاومة الفلسطينية بوجود إرثٍ طويلٍ وتجربة مريرة لها مع الاحتلال الإسرائيلي، تضافرت مع المظلّة العقائدية التي تؤكّد أبدية الصراع وحتميّته، وأنه صراع "وجود لا حدود". وهو فارق مهمُّ وجوهري، يميّز مواقف حركات المقاومة الفلسطينية وأداءها عن تنظيمات وجماعات أخرى، سواء في المنطقة أو خارجها.
لقد غيّرت "طوفان الأقصى" ملامح الشرق الأوسط، وكشفت أن الثوابت لا تتغيّر ولا يمكن تبديلها. وأكّد أن الإنسان هو الأساس والفاعل، وإرادته كفيلةٌ بتطويع الواقع وتغيير الحاضر وتشكيل المستقبل.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.