رهانات العدوان على غزة وأحوال المقاومة والآفاق الممكنة

رهانات العدوان على غزة وأحوال المقاومة والآفاق الممكنة

01 اغسطس 2014

رجال المقاومة يشاركون في تشييع شهداء غزة (30يونيو/2014/Getty)

+ الخط -

يدل الموقف الصهيوني المعلن عن رفض مبادرات وقف العدوان على قطاع غزة، ومطالباته بنزع سلاح المقاومة، وتدمير الأنفاق، وإنهاء الصواريخ، على مدى العنجهية والصلف اللذين يتصف بهما الصهاينة، خصوصاً حينما يتعلق بالعرب والفلسطينيين. ومع أن نتائج المواجهة الدائرة بين قوات المقاومة الفلسطينية وجيش الصهاينة توضح، بجلاء، رجحان كفة المقاومة، إلا أن القيادة السياسية الصهيونية ما زالت تتصرف، وكأنها في موقع الانتصار، وتريد فرض شروطها لقبول وقف إطلاق النار، بل وجعل الفلسطينيين يدفعون ثمن الانتصار الذي أحرزوه!

فرصة للمقاومة

رفض الصهاينة قبول شروط المقاومة لوقف إطلاق النار ربما يكون وراءه المراهنة على عدة أمور، أهمها: المراهنة على الوقت، آملين في إنهاك قوى المقاومة، ونفاذ مخزونها من العتاد والذخائر، بما يمكن القوات الصهيونية من تحقيق اختراق عسكري يقلب الموازين، ويجبر المقاومة على التنازل. الأمر الثاني، المراهنة على أن يؤدي امتداد القتال، فترة طويلة، إلى انهيار الجبهة الداخلية في غزة، نتيجة تنامي الضغط الشعبي على المقاومة، بسبب المعاناة التى يعانيها أبناء غزة، نتيجة التهجير القسري لعشرات الآلاف من سكان المناطق الحدودية من بيوتهم. الأمر الثالث: المراهنة على تصعيد الضغوط العربية والإقليمية والدولية على قوى المقاومة، بما يجبرها على التنازل، والقبول بوقف إطلاق النار بالشروط الصهيونية، أو، على الأقل، بأقل قدر ممكن من الإنجازات السياسية.

بشأن الأمر الأول، هناك عدة اعتبارات، ترجح أن امتداد المعركة فترة أطول سيكون من الناحية العسكرية لصالح المقاومة، لا ضدها، فالمقاومة الفلسطينية أكدت، منذ بداية العدوان، أنها أعدّت نفسها لمعركة طويلة الأمد، وتصرح أنها لم تستخدم إلا النزر اليسير من إمكاناتها العسكرية. ومن ناحية أخرى، تملك المقاومة خاصتين مهمتين، تؤثران بشكل كبير في سير المعارك ونتائجها، هما امتلاك زمام المبادرة، وعنصر المباغتة. فللمرة الأولى، في تاريخ الصراع معه، يجد الجيش الصهيوني نفسه فى موقع الانتظار لموعد الضربة المقبلة ومكانها. ولا توجد لديه خطة واضحة لمهاجمة قوات المقاومة، لأنه، ببساطة، لا يعرف أين توجد، ولا بماذا تفكر. كذلك، فإن امتلاك عنصر المباغتة يمكن أفراد المقاومة من ضرب قوات العدو في الأماكن التي توقع به أكبر الخسائر، بما يؤدي إلى تدمير معنويات الجنود، وبالتالي، تخفيض قدراتهم القتالية. يضاف إلى ذلك أن المقاومة نجحت في تحقيق نقلة استراتيجية في إدارة الحرب مع جيش الصهاينة، تتمثل فى نقل ساحة العمليات العسكرية إلى داخل حدود فلسطين المحتلة، مع إبقاء الكيان الصهيوني كله تحت مرمى النيران. فالعمليات العسكرية، بما فيها من قتل وأسر للجنود والضباط الصهاينة، يكاد معظمها يدور داخل حدود فلسطين المحتلة، من دون أن ينجح الجيش الصهيوني في التقدم مسافة تذكر في أراضي قطاع غزة. هذا الأمر، بالإضافة إلى تأثيره الهائل على معنويات أفراد الجيش الصهيوني، وبالتالي، على قدراتهم القتالية، فإنه يضرب في الصميم إحدى الركائز المهمة لنظرية الأمن الصهيوني، والمتمثلة في نقل المعارك، دائماً إلى أراضي "العدو"، لحماية المجتمع الصهيوني، والذي لا يملك عمقاً استراتيجياً، من التأثير المباشر للعمليات العسكرية. الأمر الأخير الذي تتفوق فيه المقاومة الفلسطينية على الجيش الصهيوني هو مقاتلوها، والذين يمتلكون روحاً قتالية عالية، ودرجة عالية من التصميم والشجاعة، يغذيها انتماء قوي لدينهم وأمتهم، ورغبة هائلة في الشهادة، بالإضافة إلى مستوى عال من التدريب والتجهيز والانضباط. في المقابل، فإن الجنود الصهاينة، والذين ينتمون في مجملهم إلى الجيل الثالث من المستوطنين الصهاينة، مذعورون ويفتقرون إلى الانتماء العقيدي، والروح القتالية العالية، والرغبة في التضحية التي تميز بها مقاتلوهم السابقون من جيلي التأسيس والبناء.

شبان فلسطينيون يتصدون لقوات الاحتلال في الخليل (مايو/2014/الأناضول)

أما الأمر الثاني، وهو المراهنة على انكسار الجبهة الداخلية للفلسطينيين، بسبب الإمعان في القتل وتهجير الناس من بيوتهم، لإحداث أزمات داخلية، تدفع بالوضع الداخلي الفلسطيني إلى الانفجار، فإن حسابات الصهاينة في هذا أيضاً خاطئة.  فالفلسطينيون في قطاع غزة مهجرون، منذ أكثر من ستين عاماً، ويقتلون في كل يوم، بسبب ومن دون سبب، وما هذان النزوح والقتل الحاليّان إلا حلقة صغيرة في سلسلة طويلة مماثلة. بالإضافة الى ذلك، هم محاصرون ومجوعون منذ ثمانية أعوام، ذاقوا خلالها كل أنواع العذاب، ومورست ضدهم أشد درجات السادية، تحت أنظار العالم ومسامعه، من دون أن يكترث أحد. ماذا بقي لهم ليخسروه. ظهورهم إلى الحائط، وانسدت أمامهم السبل، وليس لهم الا الانفجار في وجوه قاتليهم. والمتابع أحوال المهجرين قسراً من بيوتهم إلى مدارس وكالة الغوث في مخيمات اللجوء في قطاع غزة، يشاهد، بوضوح، مدى التفافهم حول المقاومة وصلابة إرادتهم ورغبتهم في الانتقام واسترداد حقوقهم، خصوصاً وهم يشعرون أن مقاومتهم، وربما للمرة الأولى، قادرة على تحقيق ذلك، وكسر عدوهم. الأمر الذي لم يلتفت إليه المراقبون أن هذا العدوان أدى، بشكل رائع، إلى التئام لحمة الفلسطينيين في قطاع غزة خلف المقاومة، على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية، تلك اللحمة التي أصابها شرخ كبير في أعقاب الانقسام الذي ابتلي به قطاع غزة عام 2007، والذي ربما كان سيتطلب علاجه سنوات طويلة، وجهوداً كبيرة، لولا هذا العدوان الذي وحّد الجميع حول راية المقاومة، ودمل الجراح بشكل ما كان يتوقعه أحد. لم يقتصر هذا التأثير على أبناء الشعب الفلسطيني، وإنما امتد ليطال مواقف قيادته السياسية فى رام االله، والتي تبنت مطالب المقاومة بشكل كامل، ووقفت فى خندق واحد مع المقاومة، على الرغم من التناقض الجذري بينهما، في مشهد تكامل فيه برنامج المقاومة مع برنامج منظمة التحرير، الأمر الذي ربما كان له دور في تصاعد الهبة الشعبية في الضفة الغربية، في الأيام الماضية، والتي قد تستمر في تصاعدها، لتتحول إلى انتفاضة حقيقية.


المقاومة غير مرتبطة بقوى دولية

وفيما يتعلق بالضغوط الدولية والإقليمية والعربية، من البديهي أن قدرة أي طرف على الضغط على المقاومة تتوقف على مدى ارتباط قوى المقاومة به، واعتمادها عليه، بالإضافة إلى الإمكانات الفعلية التي يملكها الطرف الضاغط، وتمكنه من فرض ما يريد. فيما يتعلق بالقوى الدولية، فالمقاومة، في عمومها، غير مرتبطة بها ولا تعتمد عليها، بل إن القوى الدولية، في عمومها، تقف منها موقف العداء والشريك في الحصار المفروض عليها منذ حوالي ثماني سنوات. وعليه، فإن قدرة هذه القوى على الضغط المباشر على المقاومة محدودة.

وبشأن القوى الإقليمية، القوتان الإقليميتان اللتان تملكان القدرة على التأثير في مجريات الأمور، وهما تركيا وإيران، داعمتان للحق الفلسطيني وللمقاومة الفلسطينية. ومن غير المرجح أن يتم استخدامهما للضغط على المقاومة، لتقديم تنازلات لقاء صفقات في ملفات أخرى، فالدولتان مأزومتان في علاقتهما مع الغرب وأميركا خصوصاً، كل على طريقته. والانتصار الفلسطيني يحقق لكل منهما مكاسب استراتيجية، تفوق المكاسب الصغيرة التي قد تحققها في صفقات في ملفات أخرى. وبشأن الوضع العربي، فيما عدا دولة قطر، فقد اختارت الدول العربية المؤثرة جميعها، بما فيها مصر، أن تقف، في سابقة تاريخية، إلى جانب الكيان الصهيوني ضد الحق الفلسطيني.  وعلى الرغم من سلبيات هذا الأمر المتعددة، إلا أنه لا يخلو من إيجابيات، لعل أحدها هو تحرير المقاومة الفلسطينية من الضغوط العربية، والتي كان من الممكن أن تتعرض لها، لو كانت بعض الدول المؤثرة داعمة، أو محتضنة لها.

خلاصة القول إن المقاومة الفلسطينية لم تكن متحررة يوماً من الضغوط العربية والإقليمية والدولية، كما هي عليه اليوم. لذا، من الأرجح ان تكون المراهنة على هذا الجانب خاسرة.
والآن، في حال صدقت هذه التقديرات. إلى أين تتجه الأمور؟

الواضح أن الجيش الصهيوني، وكذا قيادته السياسية، في أزمة. فالجيش غير قادر على القضاء على القوة العسكرية للمقاومة، بل أكثر من ذلك، إنه غير قادر على تحقيق أي من الأهداف المعلنة للحرب، والتي حرصت القيادة السياسية على أن تكون صغيرة ومحدودة، خوفا من المساءلة فيما بعد، والتي تمثلت في إيقاف إطلاق الصواريخ وتدمير الأنفاق. الكيان الصهيوني كله تحت النار، والشرف العسكري لجيشه ممرغ في التراب. وللمرة الأولى في تاريخه، يتم عزله عن العالم، وإغلاق مجاله الجوي أمام الطيران المدني، نتيجة تواصل سقوط صواريخ المقاومة على مطاره الدولي في اللد. الخسائر الاقتصادية تتراكم، وبلغت المليارات، وكثيرون من مستوطنيه في الملاجئ. الغضب الشعبي سيبلغ ذروته، حينما يطلع الجمهور الصهيوني على حجم الخسائر البشرية التي مني بها جيشهم، والتي تحرص قيادته السياسية على إخفائها.


المجازر.. خيار صهيوني دائم

على الرغم من ذلك، ربما تقرر القيادة السياسية الصهيونية، في هذه المرحلة، عدم الرضوخ لمطالب المقاومة، والإمعان في قتل الأطفال والنساء والمدنيين، وإطالة أمد العمليات العسكرية، لكنها، على الرغم من المكابرة، ستدرك، آجلا أو عاجلاً، أن ذلك لن يقودها إلا إلى مزيد من الخسائر، وسيراكم النتائج السلبية على الجيش والمجتمع الصهيوني، وربما أدى إلى أن يضطروا إلى دفع ثمن أكبر مما هو مطلوب الآن. فماذا عساهم فاعلين، حين يدركون ذلك؟  الأرجح أنهم سيقومون بأحد أمرين: الرضوخ لمطالب المقاومة، بما يعنيه من اعتراف بالهزيمة، وهو أمر مستبعد لمن خبر صلفهم وغرورهم وعنجهيتهم، أو الإصرار على رفض مطالب المقاومة، ما سيؤدي إلى حدوث انسداد في الأفق السياسي، الأمر الذي قد يؤدي إلى انسحاب قوات الجيش الصهيونية من المناطق الحدودية، ووقف إطلاق النار من طرف واحد، بحجة تحقيق جيشهم أهدافه، الأمر الذي ألمحت إلى إمكانية حدوثه وزيرتهم تسيفي ليفني قبل أيام، والذي ستتزايد احتمالات حدوثه، إذا ما تصاعدت الهبة الشعبية في الضفة الغربية، وتحولت إلى انتفاضة ثالثة.

وفي حال قررت القيادة السياسية الصهيونية المضي في هذا الخيار، فإن المقاومة الفلسطينية ستجد نفسها أمام خيارات صعبة، فإن قبلت بوقف إطلاق النار، فإن أيا من مطالبها لن يتحقق، ولن يتغير شيء على الأرض، وهذا سيمثل هزيمة سياسية كبيرة، وفشلاً في استثمار الإنجاز العسكري المتميز للمقاومة. وإن استمرت فى إطلاق النار، فإنها ستتعرض لضغوط دولية كبيرة، ربما تغير من مسار الأحداث. الوقت يمضي ثقيلاً على الطرفين، والمعارك لا يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية، ولا بد لأحدهما، فى حال فشلت الجهود السياسية في الوصول إلى اتفاق يرضي كليهما، من أن يحسم المعركة، بشكل يرغم الطرف الآخر على الرضوخ لشروطه.

خيارات الجيش الصهيوني محدودة، ولا يمكن له أن يفعل أكثر مما فعل، سوى الإمعان في قتل النساء والأطفال والشيوخ وهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها، وهذا لن يدفع المقاومة إلى الركوع والاستسلام. يبدو أن المقاومة، كما هي من بداية المعارك، من يملك عنصر المبادرة، وما زالت خياراتها متعددة، إذا ما أخذنا في الاعتبار الإمكانات التي تملكها، ولم توظفها في المعركة بعد.

avata
محمد جودة

كاتب وطبيب فلسطيني، عمل سنوات في القطاع الطبي في قطاع غزة