ح سيبك للزمن

12 فبراير 2017

فيروز وأحمد رامي وجوزيف حرب وأم كلثوم

+ الخط -
لم تكن كوكب الشرق أم كلثوم شاعرة، ولا فيلسوفة، ولكن فلاسفة الشعراء كانوا يجتمعون حول صوتها الجميل، وفنها العبقري. وبما أنهم فلاسفة، فقد أرادوا أن يتحدّثوا، في أشعارهم، عن الخلود، من خلال صراع الإنسان مع الزمن. وعبد الوهاب محمد الذي أبدع أغنية "حَ سيبك للزمن" ليس الوحيد بين أولئك الشعراء، فالمرءُ يستطيع أن يتحدّث عن عشرين أغنية، في الأقل، تتناول مشكلة الزمن بأشكال مختلفة، فأحمد رامي كاد أن يلخص المسألة بعبارةٍ يقولها في أغنية "عودت عيني على رؤياك": "إن مر يوم من غير رؤياك/ ما ينحسبشِ من عمري". 

نعيشُ، نحن بشرَ القرنين العشرين والحادي والعشرين، ونهدرُ أعمارنا في الأكل والشرب واللعب والنوم والاستيقاظ والثرثرة، على طريقة الزبرقان بن بدر الذي دمغه الشاعرُ الحطيئة بقوله:
دعِ المكارم لا ترحــــلْ لبغيــــــتـهـــا/ واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
وأما السادة العباقرة فلا يصرفون دقيقةً من أعمارهم إلا بمقدار، أو كما يُقال في الكلام الدارج: بالقطّارة... فالشاعر العظيم عمر الخيام ينظر إلى كل ما يراه أو يسمعه من خلال هاجس مرور الزمن، فيقول:
أتدري لماذا يُصبحُ الديكُ نائحاً/ يرددُ لحنَ الموتِ في غُرَّةِ الفجرِ
ينادي لقد مرَّتْ من العمر ليلةٌ/ وَهَا أنتَ لم تشعرْ بِذَاكَ ولا تدري
من حسن حظ الشاعر الفارسي عمر الخيام، بالطبع، أن شاعراً مصرياً مقرّباً من أم كلثوم هو أحمد رامي قد أحبه، وأعاد إبداع رباعياته وتطويعها، لتكون ملائمة لصوت (الست) أم كلثوم، فأصبح اسمُ الخَيَّام، في العالم العربي الكبير، أكثر شهرةً من أي شاعر محلي أو عربي، وبالأخص قوله في إحدى الرباعيات:
فقد تساوى فـي الثرى راحلٌ/ غداً، وماضٍ من ألوف السنينْ
إلى أن يقول: فإنما الأيامُ مثلُ السحابْ
لم يقصر الفنانان الكبيران، عاصي ومنصور الرحباني، يوماً واحداً في تناول مشكلة الزمن، فهما، مع (فيروزهما)، ليسوا أقل عمقاً وألمعيةً وفلسفةً من أحمد رامي وبيرم التونسي وعمر الخيام. ففي سنة 1961، أبدى الهرم الرابع محمد عبد الوهاب إعجاباً كبيراً بصوت فيروز، وقال إنه يشبه مسحوق الألماظ، وقرّر أن يلحن لها أغنيةً ما، فسارع الرحبانيان إلى إبداع قصيدةٍ تليق بهذا اللقاء التاريخي الكبير، وقدّماها لعبد الوهاب ليلحنها. إنها قصيدة "سهار" التي تقول فيها فيروز، متنازلة عن نهار واحد من عمرها:
والنوم مين بينام غير الولاد؟/ بيغفوا وبيروحوا يلملموا أعياد/ ما دام إنك هون/ يا حلم ملو الكون/ شو هم ليل وطار/ ينقص العمر شي نهار، بس سهار.
تكاد الظاهرة الرحبانية التي بدأت بالتشكل والظهور في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين أن تكون ظاهرة زمنية بامتياز، فحيثما تجولتَ في ربوع هذين الفنانين سوف تقف على تناول للزمن بطريقة ما. خذ أغنية قهوة عالمفرق التي اشترك شقيقُهما إلياس الرحباني في تلحينها، وتقول: يا ورق الأصفر/ عم نكبر عم نكبر/ ‏الطرقات البيوت/ عم تكبر عم تكبر/ متل السهم الراجع من سفر الزمان/ قطعت الشوارع ما ضحك لي إنسان، كل أصحابي كبروا وتغير اللي كان، صاروا العمر الماضي، صاروا دهب النسيان.
وفي أغنية "يا دارة دوري فينا" التي لحنها فيلمون وهبي، يقول عاصي ومنصور: تعا تا نتخبى من درب الأعمار/ وإذا هني كبروا نحنا بقينا صغار/ وسألونا وين كنتوا؟/ وليش ما كبرتوا أنتوا؟ منقلن نسينا/ واللي نادى الناس تيكبروا الناس، راح ونسي ينادينا.
وأما جوزيف حرب فيكتب في قصيدة "طلعلي البكي": بيكفي وأنا عندك شو خسرت سنين.
ملاحظة: أعتذر لقرائي الكرام عن هذه الفلسفة المفاجئة، وأعدكم بالعودة إلى حالتي الطبيعية في مقالاتي القادمة.
دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...