28 أكتوبر 2024
جولة في "مملكة الفراشة"
اعتاد الروائي الجزائري، واسيني الأعرج (61 عاماً، 20 رواية)، نيل الجوائز، وصار "صياداً" لها، كما تروج مزحةٌ شائعة عنه، وهذه جائزة كتارا للرواية العربية، من المؤسسة العامة للحي الثقافي ـ كتارا في قطر، تظفر بإحداها (60 ألف دولار) روايته "مملكة الفراشة" (دار الصدى، دبي. دار الآداب، بيروت، 2013)، وتفوز أيضاً بجائزة العمل الأنسب للدراما (200 ألف دولار). ومن المفارقات، الكاشفة ربما، أن عملاً يحتفي، في سرده ومشتملاته، بالرواية، جنساً إبداعياً، وبالفنون عامة، الموسيقى والمسرح خصوصاً، هو أول من يفوز بهذه الجائزة العربية الثقافية الكبرى، المستجدّة، في دورتها الأولى. إذ إنك، في "مملكة الفراشة"، تجول على نصوصٍ روائية وسردية عالمية كبرى، والبطلة الأساس فيها، الراوية التي يفيض النص بسردها وحكيها، عازفة موسيقى، أصلاً، وقارئة أدب. وواسيني الأعرج وفيٌّ، في عمله هذا، لاحتفاله الدائم، في عموم مشروعه الروائي، بالفنون والإبداعات والنصوص العالمية الكبرى، وأبطال كثيرون لكثير من رواياته مثقفون وفنانون، ما يجيز الزعم أن نتاجه يندرج ضمن "رواية المثقف"، التسمية التي اختيرت تمييزاً عن "رواية الحياة".
يبدو هذا التصنيف اعتباطياً أحياناً، وهو بشأن "مملكة الفراشة" على درجة من الصحة، وإنْ غير مكتملة، ففيما تحضر نتفٌ من عوالم فيرجينيا وولف وغوته ولوركا وغيرهم، كما تحضر إحالاتٌ إلى موسيقات ورسومات كثيرة، فإن هذا كله، في مسار الرواية، يتصل بانشغالات الراوية الأنثى، المتكلمة في النص، وفضاءاتها المتخيّلة والواقعية والافتراضية، كما أن تلك النتف والإحالات تبدو، في مقاطع غير قليلة، انعكاساً لارتدادات الدواخل الجوانية والشعورية لدى الشخصيات، لا سيما الراوية "ياما" البطلة المركزية، والتي لديها، كما كل هذه الشخصيات، اسم آخر، مستلٌّ من أعمال أدبية معلومة، ما يؤشر إلى انفصام حادث، وغير هيّن، في كل أبطال الرواية، يجوز اعتباره خراباً ثقيلاً لديها، كما خراب كبير في البلد الذي انتهت فيه الحرب الأهلية، (هذه تسمية واسيني لعشرية العنف والإرهاب في الجزائر)، لكن مناخها لم ينتهِ، ما يجعلك، أنت القارئ، تشعر بأجواء "حربٍ صامتة" تشكّل الأثاث العام للمجالين، المكاني والزماني، لحركة شخصيات "مملكة الفراشة".
سيكون المسلسل التلفزيوني لهذا العمل، أو الفيلم، بناءً درامياً مفارقاً للمبنى العام الذي قامت عليه الرواية، وأظنه سيحتاج سيناريو شديد الحذاقة، يتخفّف من الحضور الشاسع لانشغالات المثقفين والأدباء، ويقع على حالة التأزم العام لدى كل الشخصيات الرئيسية، وهي أفراد أسرة جزائرية متوسطة. يقضي الأب الصيدلاني اغتيالاً، وتسميه ابنته الراوية زوربا، وهي التي يسميها حبيبها المفترض في "فيسبوك" مارغريت، وتسميه فاوست، ويتبيّن، لاحقاً، أنه ليس المسرحي الذي أحبته وأُخذت به وشكّلته في ذهنها، بل قريب له يدير صفحته في موقع التواصل الاجتماعي الذي يحضر في الرواية مملكةً زرقاء. وفي أثناء التواصل معه، وقبل ذلك لمّا كانت "ياما" تعزف على الكلارينيت في فرقة موسيقية، ولمّا عملت في الصيدلية التي احترقت، وفي أثناء تفاصيل أخرى، منها ولعها بأبيها، والتباس صلتها بوالدتها، في كل الحكي عن هذا كله وغيره، ثمّة تداخلٌ متقن، يصنعه واسيني الأعرج، بين المتخيّل والافتراضي والخرافي والمتوهّم والحقيقي والعبثي، وثمّة العبور من زمن إلى آخر. وفي الغضون، ثمّة الجزائر التي يبدو حضورها شبحياً وعابراً، غير أن مناخاً من قتل وموت وبياتٍ يبدو شديد الأثر على النفوس. وإلى "ياما"، ثمة أختها البعيدة في كندا، غير المكترثة ببلادها، وأخوها رايان في السجن، لتورطه بالمخدرات، وثمّة الأم المثقفة، والمقيمة في رواياتٍ تقرأها، وتبني منها عوالمها الشخصية، بكيفية مرضية.
العزلة والخسران والخيبة، بعض ظلال "مملكة الفراشة" التي تُختتم بعبور البطلة جسراً ينقلها من مكان إلى آخر. تُرى، هل من دلالة أو معنى لذلك؟ مبروك واسيني الأعرج.