جابر عصفور يخدع نفسه مجدّداً

جابر عصفور يخدع نفسه مجدّداً

20 يونيو 2014

جابر عصفور يؤدي اليمين أمام السيسي

+ الخط -

هل أعاد الناقد والمثقف المصري، جابر عصفور، إلى الشعب الليبي، ال 150 ألف يورو، قيمة جائزة معمر القذافي الدولية التي أعطيت له؟
يبدو السؤال سمجاً، لكنه ليس كذلك أبداً، إذا تذكّرنا أن عصفور نفسه هو من قال، قبل ثلاث سنوات، إنه يبحث كيفية رد قيمة هذه الجائزة التي تحمل اسم "السفّاح" القذافي، (بتعبيره)، إلى الشعب الليبي العظيم، (بتعبيره). في ندوة معه في أبوظبي، بعد أسابيع من خلع القذافي، وخلع حسني مبارك الذي أدى عصفور أمامه اليمين، وزيراً للثقافة، لمّا كان ملايين المصريين يهتفون بسقوط مبارك وإنهاء نظامه. أمضى الكاتب المعروف في موقعه ذاك تسعة أيام، ثم غادره مستقيلاً، لا لشيء، إلا لأنه أيقن أنه خدع نفسه (بتعبيره)، عندما ظنَّ أنه إنما أراد، في تلك اللحظة الحرجة، أن يحمي مؤسسات مصر الثقافية، ثم بدا أن ذلك لم يكن ممكناً. وأيضاً، عندما وجد أن الحزب الوطني الديمقراطي (المنحل لاحقاً) هو من يهيمن على الحكومة التي تسلم فيها حقيبته الوزارية، برئاسة أحمد شفيق، فيما هو ممن هاجموا "كوارث" (بتعبيره) هذا الحزب كثيراً.
يُستدعى، هنا، هذا الإيجاز من أرشيف تصريحاتٍ غزيرةٍ انقطع إلى بثها جابر عصفور، غداة استقالته تلك، في عدة مقابلات تلفزيونية وصحفية معه، بمناسبة أدائه اليمين، هذه المرة، أمام عبد الفتاح السيسي، وزيرا للثقافة أيضاً. خاض في تلك المقابلات ما يمكن حسبانها حملة دفاع عن نفسه، بإطناب كاريكاتوري، لا سيما عندما شرح ذلك الخداع الذي اقترفه بحق نفسه. وبالإذن من الراحل محمد عابد الجابري، يجوز، في هذا المطرح، قياس الشاهد على الغائب، في سؤالٍ عمّا إذا كان صاحبنا سيكتشف، لاحقاً، خديعةً جديدةً ارتكبها بنفسه ضد نفسه، في واقعة تسلمه وزارة الثقافة، في حكومةٍ يرأسها عضو عريق في لجنة السياسات (إياها) في الحزب الوطني، وتضم عدة أعضاء في الحزب، ما صاروا سابقين فيه إلا لأن الحزب طويت يافطته. والبادي أن الأستاذ الجامعي العتيد، والقارئ المكين لطه حسين، ودارس الرواية العربية، والباحث في جماليات الصورة الشعرية، لا يُلدغ من الجحر ذاته مرتين، وإنما ثلاثاً وأربعاً وأكثر، فقد عرف بعد ثورةٍ وحربٍ في ليبيا أن معمر القذافي سفّاح، ووقع على هيمنة الحزب الوطني على حكومة أحمد شفيق، لمّا دخل إلى قاعة اجتماعاتها. وإذ صار، الأسبوع الجاري، زميلاً لوزراءَ عتيدين في الحزب المذكور، وفي دواليب نظام مبارك، من طراز وزير العدل الذي أشرف على التزوير الصريح في آخر انتخابات برلمانيةٍ نظمها جمال مبارك، فإن أحداً لا يزيد في الطنبور وتراً إذا ذهب إلى أن عصفور صار مسلياً في اكتشافاته الطريفة هذه.
ولئلا تأخذنا غواية التجرؤ على الرجل، صاحب الحماس الوفير في الدعوة إلى التنوير ورفض التعصب وحريات الإبداع والديمقراطية ونبذ التسلط، يحسن التسليم بأنه يستحق أن يكون وزيراً للثقافة في بلده، لخبرته ومراسه في مؤسساتٍ ثقافيةٍ مصرية مهمة، وكذلك رؤيته إلى وظيفة الثقافة ودورها، ومعرفته بالوسائل التي يمكن بها خدمة الثقافة في مصر، وعبوراً منها إلى الثقافة العربية. وللحق، له إسهامات محمودة في هذا كله. لكن، المسألة ليست هنا أبداً، إنها في اللحظة الخطأ التي يورّط فيها عصفور نفسه، عندما يُراد توزيره في غضونها، فلا يلتفت إلى العوار الكثير في الأثناء، ويتعامى عن "كوارث" إبّانها، من قبيل التهتك المريع الذي تقترفه السلطة الراهنة في مصر، عندما تتعسف في الاعتقالات والاستهانة بأرواح المصريين وأرزاقهم وحرياتهم.
يضيف جابر عصفور إلى متواليات خديعتِه نفسَه، هذه المرة، حجراً ثقيلاً يرميه على شخصه، وعلى ما راكمه من رصيدٍ في العمل الثقافي الرصين، لمّا انقطع إلى خدمة الأدب العربي، وإلى الإشراف على ترجمات مهمة من عيون الإنتاج الإنساني الرفيع. نتذكّر جابر عصفور ذاك، فلا نراه لائقاً به مشهدُه يقف أمام الجنرال السيسي، وريث الجنرال مبارك، في إدامة العسف إياه، بعد مشهده أمام الأخير في أيامه الأخيرة، وبعد حياده عن الحق والحقيقة، في أثناء جوائح تتالت في مصر، في عام مضى، وأعوام سبقت أيضاً.

 
  

 
  

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.