ثورة البودكاست

ثورة البودكاست

25 ابريل 2023

(Getty)

+ الخط -

في كتابه "سابيانس، قصة موجزة عن البشرية" (2014)، يقول يوفال نوح هراري إن الإنسان تمكّن من السيطرة على العالم بفضل إجادته الثرثرة وتناقل الأخبار ومقدرته الاستثنائية على التكلّم في أمورٍ غير موجودة فعليا. ومفاده، لقد جعلتنا ملَكة التخيّل، نحن البشر، قادرين على تصوّر أشياء بشكل فردي وجماعي، وعلى ابتكار قصص خيالية نؤمن بها ونتشارك في اتّباع ما تنصّ عليه من قواعد وقيم.
مع اختراع الصورة، اختلفت مقاربتنا الواقع، كما اختلفت علاقتنا بالوقت، فقد كتبت سوزان سونتاغ أن "الكتابة عن الصورة هي الكتابة عن العالم". وبالفعل، كان المصوّرون آنذاك "يجمعون" أجزاء العالم إذا صح التعبير، ويكشفون وقائع كانت غائبة عنّا. ومع بدايات انتشارها، أصبحت الصورة صنو الحقيقة التي لا تقبل تشكيكا أو دحضا. لكن، مع تدفّقها الهائل وهيمنتها على وسائل الإعلام واختلاف وظيفتها في عصرٍ باتت فيه السرعة والتكثيف والإيجاز الأساس، تخلّت الصورة عن تظهير الحقيقة بزواياها وطبقاتها المختلفة، لتتحوّل إلى أداة اجتزاءٍ وتحجيم وبروباغندا، هدفها الرئيس الترويج وتسخير الحقيقة أو تحريفها لبلوغ هدف ما.
مع رواج التلفزيونات وانتشار الفضائيات وتنوّع تخصّصاتها، وتوجّه السواد الأعظم من الناس إليها لاستقاء المعلومة بكل فروعها، سيطرت فكرةُ أسبقية الصورة على الصوت وانتصار التلفزيون على الإذاعة. تلا ذلك اختراع إنترنت، وانفجار السوشيال ميديا، وهيمنة المعلومة القصيرة الموجزة وتفوّقها هي الأخرى على التحليل والمقالة. وقد ظننّا آنذاك، وحتى الأمس القريب، أن الأمور استتبّت على هذه الحال. إلا أنّ ما يشبه ثورةً صغيرةً حدثت أخيرًا في عالم الميديا، مع الصعود الاستثنائي والمدوّي لعالم البودكاست، حديث العهد نسبيا والذي يعود ابتكاره إلى عام 2004. فقد جعله رواجه الكبير والإقبال المتزايد عليه، في مختلف أنحاء العالم، منافسا شرسا للتلفزيون، لا بل إنه ربما تفوّق عليه في تلبيته حاجة الناس إلى سماع القصص، ورغبتهم في الاستزادة والتوسّع والتعمّق في مواضيع تخلّت الشاشة الصغيرة عنها للأسف، لحساب ما أصبح أكثرُها، وتحديدا في العالم العربي، يعتبره وظيفتها الأولى: الترفيه والخفّة والتنويع والاختصار.
أجل، لقد جدّد البودكاست نوعًا خلناه قد انتهى، وأكّد مجدّدا رغبة الناس في الحكي والسرد والكلام ومنحِ الوقت للدماغ كي يستغرق في الإصغاء، وإذن لكي يتخيّل ويستنبط ويتعمّق ويربط الأمور ببعضها. وهو ما كفّ التلفزيون عن فعله منذ حين، عندما راح يُمطرنا بصور فقدت لكثرتها معناها، ويسنّ لنفسه قوانين عن عدم قدرة المُشاهد على التركيز على شخصٍ يحكي وقتا طويلا، أو على صورة يتجاوز وجودها على الشاشة عددا معيّنا من الثواني، فقد أعاد البودكاست الحكّائين والرواة وهواة السرد الذين يملكون، بالطبع، ما يقولونه أو يضيفونه عن موضوع معيّن، إلى الواجهة، ومنحهم الوقت الكافي ليطلعونا ويخبرونا ويثقّفونا، مكتفيا بإبرازهم بتواضع، ومن دون إضافات ومجمّلات، فكان أن أقبل الجمهور عليه يستمع ويختار وينتقي ويشارك. بل يمكن القول حتى إن البودكاست فتح المجال عريضا أمام ثقافة الهامش، لتمارس حرّيتها وتثبت حضورها من خلال إظهار تنوّعها وثرائها الذي لا يحتاج في الحقيقة تمويلا أو رعاية، وذلك في مقابل ثقافة "المركز" التي تمثّل الأقنية إحدى واجهاتها وتتطلّب إمكانات هائلة لتقديم منتج زائل، رخيص القيمة، وغير ذي أهمية أو نفع. 
غنيّ عن القول إن البودكاست يستضيف خبراء في شتى المجالات ويتيح لهم (على عكس التلفزيون المثمَّن وقتُه بالثواني) أن يستفيضوا في تناول أيّ موضوع، إنه يُبقي مستمعَه حرّا غير مضطرّ للتسمّر أمام الشاشة الصغيرة التي أثبتت الدراسات أنها في أقلّ تقدير تضرّ العينين، وتحدّ من مقدرات الدماغ، وإنه مجّاني ومتوفّر للجميع وعلى عدة منصّات. 
أجل، يحيا البودكاست، منتقِما أخيرا لمحبّي المعرفة من ديكتاتورية تلفزيوناتٍ لا شاغل لها إلا إفراغ الدماغ، تسطيح المعنى وملء الوقت.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"