بين صاروخ وصاروخ في غزة

بين صاروخ وصاروخ في غزة

18 أكتوبر 2023

مبانٍ دمّرتها غارة إسرائيلية في غزّة (17/10/2023/Getty)

+ الخط -

هكذا استطعتُ أن أكتب لكم جزءا من الحكاية، وحيث بدأ كل شيء فجأة في غزّة، وحيث عشتُ أصعب لحظات حياتي مع عائلتي، والتي لم أكن أتخيّل يوما أنني سوف أعيشها، فهذه المرة لا تشبه أيّ مرّة أبدا.

كنّا في البيت الصغير في الطابق الثالث من بناية من ستة طوابق، وقد خزّنا مؤنا كثيرة في اليوم السابق للعدوان، وحيث توقّعنا أن تكون ردّة فعل إسرائيل قاسية على الحدث غير المسبوق، لمّا اقتحم مقاومون من غزّة الحدود واشتبكوا وأحدثوا خسائر لدى الجانب الآخر، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.

فجاة تغير كل المخطط، وحيث وضعنا خطّة الهروب المسبقة، والتي تشمل حقيبة طوارئ لكل فرد منا، وحقيبة فيها أوراقنا الثبوتية، وها نحن فجأة ننطلق حفاة، ونجري بعد إطلاق صاروخ في المسافة الفاصلة بين ثلاث بناياتٍ تتّخذ شكل المثلث ضمن مجمّع سكني هادئ والمسافة الزمينة بين سقوط الصاروخ الأول، والذي يكون عادة لمنحك فرصة للهرب، والصاروخ الثاني، لا تزيد عن دقيقة. وهكذا كنّا نجري والدماء تسيل من أقدامنا الحافية، ونحن في سباق مع ستين ثانية، لكي نبتعد أكبر مسافة ممكنة قبل سقوط الصاروخ الثاني، والذي سينهي كل شيء، وسيحيل المكان إلى قطعة جحيم من لحم ودماء وحجارة وزجاج.

كنّا نسابق الثواني ونمسح الدماء عن وجوهنا، والتي أصيبت بجروح بسبب تطاير الزجاج، ولم نكن نفعل ذلك لأننا نتألم، ولكننا نريد أن نرى الطريق لكي نستمرّ في الجري. وهكذا كنّا نصل إلى نهاية الشارع الطويل الذي يفصل المجمّع السكني عن أول شارع رئيسي واسع، حين سقط الصاروخ الثاني. تلفّتنا حولنا لكي نتأكّد أننا لم نفقد أحدا منا وبدأنا في الخطوة الثانية، وهي أين نذهب. وفي هذه المرّة، اتخذنا قرارا بالأعين وليس بالألسنة، وهو أن نستمر بالركض حتى نادانا أحدهم: ادخلوا إلى هنا.

وجدنا أنفسنا في بيتٍ لا نعرف أصحابه، ولكنهم فتحوا لنا بابهم. وهنا أدركنا أننا لا نملك أي شيء سوى ملابسنا وحقيبة أوراقنا، والتي كانت ابنتي لا تخلع رباطها الجلدي عن كتفها وحيث تصلها بعنقها أيضا، لأن هذه الحقيبة الجلدية الصغيرة هي كل ما نملك، هي التي ستخبر الآخرين من نحن فقط لا غير. وتنهّدنا ببعض الراحة، ونحن نطمئن إلى أننا قد نجوْنا.

نجوْنا في المرّة الأولى من موتٍ محقّق، ونجوْنا في المرّة الأولى، لأننا ندعو الله ألا نفترق منذ خُلقنا في هذه الحياة، فنحن لا نفعل شيئا ولم نسء لأحد. كل ما نفعله أننا نحاول، ومنذ زمن طويل، أن نعيش ونصارع ونكافح في ظروف حياة قاسية في غزّة، ولا نستطيع أن نفعل أكثر من أن نصارع ونكافح.

نجوْنا في هذه الجولة، وفقدنا بيتنا، وكل ما نملك فيه، وأصبحنا لاجئين مشرّدين عند عائلة أخرى في غزّة لنعيش بينهم ومعهم، ونتشارك الخوف واللقمة ثلاثة أيام، حتى وصل القصف إلينا، فكان علينا أن نخرج لكي نجري وننجو بأنفسنا. وهذه المرّة كنا نركض، وقد زاد عدد عائلتنا، فمعنا أفراد العائلة الجديدة الصغيرة التي آوتنا، والتي أصبحنا نحن وهم عائلة واحدة، واتفقنا، من دون كلام، أن نواجه معا المصير نفسه.

لن يُخبرك أحدٌ أنك سوف تمارس الجري مُجبرا، وليس رياضة لتحسين لياقتك البدنية. وها أنا وفي هذا العمر، وحيث أقضي معظم وقتي في القراءة والكتابة، أمارس الجري بدلا منهما، وكنت أراها ترفا للمرفّهين في الحياة. أما أنا فصراعي مع حياةٍ قاسيةٍ في غزّة، هو الجري واللهاث مع تقطّع الأنفاس، من أجل تأمين حياة عائلتي الصغيرة، والتي أصبحتُ أقوم فيها بدور الأب والأم منذ كنتُ في أواخر العشرينيات من عمري. أما اليوم فأنا أجري معهم وبهم في صراعٍ مع كل آلات الموت في العالم.

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.